JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

recent
مياومة
Startseite

بيان تأثر المعاصرين بتفسير الجهمية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المطر: (إنَّهُ حَدِيثُ ‌عَهْدٍ ‌بِرَبِّهِ)

بيان تأثر المعاصرين بتفسير الجهمية

لحديث النبي صلى الله عليه وسلم

عن المطر: (إنَّهُ حَدِيثُ ‌عَهْدٍ ‌بِرَبِّهِ)



بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد حذَّر السَّلف من قراءة كتب المبتدعة وأهل الأهواء، وذكروا أنهم يدسون البدع في كلامه دسًّا، وأن اعتقاداتهم تؤثر في مؤلفاتهم، فليس تأليف المبتدع بمنأى عن اعتقاده، بل إنهم دخلوا في التأليف لأجل نشر بدعهم واعتقادهم، بل وتسلطوا على عامة العلوم خاصة التفسير وأصول الفقه، لأجل نشر عقائدهم الباطلة، فلا يجوز النظر في كتب أهل البدع، بل ولا في الكتب المشتملة على الحقّ والباطل؛ لما في ذلك من إفساد العقائد.

والسنة: هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك النظر في كتبهم، والإصغاء إلى كلامهم، لأن النظر فيها يؤدي إلى وقوع الشبهات في القلب، وإلى تكرار كلامهم الفاسد، وقد يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة.

ولعظم خطر كتب أهل الأهواء والبدع، فقد شدد السَّلف في قراءتها وحذروا منها غاية التحذير.

قال ميمون بن مهران: لا تصغِيَنَّ سمعك لذي هوًى، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه.

وقال أبو قلابة، كما في البدع والنهي عنها (55): (لا تجالسوهم- يعني: أهل البدع- ولا تخالطوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون).

وقال إبراهيم النخعي: (لا تجالسوا أصحاب البدع، ولا تكلموهم؛ فإني أخاف أن ترتد قلوبكم).

قلت: والأخذ من كتب المبتدعة كالأخذ من المبتدعة بالمجالسة وغيرها.

وقد روى مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قال: إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم.

وقال البرذعي في سؤالاته لأبي زرعة (1/49): (شهدت أبا زرعة سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب! هذه كتب بدع وضلالات! عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما يغني عن هذه الكتب، قيل له: في هذه الكتب عبرة! قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطوات والوساوس وهذه الأشياء؟! هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم! فأتونا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبدالرحيم الدبيلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق البلخي، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع!). انتهى.

قلت: هذا كلام السلف قاطبة وعليه إجماعهم، ولو أردنا استبدال بعض الأسماء الواردة في هذا النص بأسماء أخرى، كالنووي بدلًا عن الحارث المحاسبي، أو ابن حجر بدلًا عن عبدالرحيم الدبيلي... فهل سيتغير الحكم؟ لن يتغير، وسيقول السلف حينها أيضًا: ما أسرع الناس إلى البدع!

قال الذهبي معقبًا على كلمة أبي زرعة كما في ميزان الاعتدال (1/431): (وأين مثل الحارث؟ فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟! كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق التفسير للسلمي لطار لبه؟ كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الأحياء من الموضوعات؟ كيف لو رأى الغنية للشيخ عبدالقادر؟! كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟! بل لما كان الحارث لسان القوم في ذاك العصر، كان معاصره ألف إمام في الحديث، فيهم مثل أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسي، وابن شحانة كان قطب العارفين كصاحب الفصوص، وابن سبعين).

وقال عبداللطيف بن عبدالرحمن في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (ص83): (فعليك بكتب أهل السنة، واحذر ‌كتب ‌المبتدعة، فإنهم سوَّدُوها بالشبهات والجهالات التي تَلَقُّوهَا عن أسلافهم وشِيَعِهِم).

وقال حمد بن عتيق كما في الدرر السنية (3/ 357): (وليحذر طالب الحق من كتب أهل البدع، كالأشاعرة، والمعتزلة، ونحوهم، فإن فيها من التشكيك، والإيهام، ومخالفة نصوص الكتاب والسنة ما أخرج كثيرا من الناس عن الصراط المستقيم، نعوذ بالله من الخذلان).

وقال محمد بن صالح العثيمين في فتاويه في كتاب العلم (ص87- 91): (فاحرص على أن تكون مكتبتك خالية من الكتب التي ليس فيها خير أو التي فيها شر، وهناك كتب يقال: إنها كتب أدب، ولكنها تقطع الوقت وتقتله من غير فائدة، وهناك كتب ضارة ذات أفكار معينة وذات منحى معين، فهذه أيضًا لا تدخل المكتبة سواء كان ذلك في المنهج أو كان ذلك في العقيدة، مثل ‌كتب ‌المبتدعة التي تضر في العقيدة، والكتب الثورية التي تضر في المنهج. وعمومًا كل كُتُب تضر فلا تدخل مكتبتك؛ لأن الكتب غذاء للروح كالطعام والشراب للبدن، فإذا تغذيت بمثل هذه الكتب صار عليك ضرر عظيم واتجهت اتجاهًا مخالفًا لمنهج طالب العلم الصحيح). انتهى.

قلت: ولا شك أن هذا التفصيل وهذا الكلام جميل، غير أننا إذا جئنا عند الامتثال والتطبيق العملي وقف حمار الشيخ في العقبة عند بعض الأسماء كالنووي وابن حجر.

وقد غضب رسول صلى الله عليه وسلم حين رأى مع بعض الصحابة صحيفة من التوراة، فأيهما أفضل التوراة أم كتب الجهمية والأشاعرة؟ إن قالوا: التوراة حرفت، فأقول: وكذلك كتب الجهمية الأشاعرة حرفت نصوص الكتاب والسنة.

بل إن الصحابة رضي الله عنهم أحرقوا المصاحف التي كانت تخالف الرسم العثماني بالرغم من كونها كلام الله عز وجل، وذلك لمخالفتها لما اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم من المصحف الإمام، وقطعًا لمادة الاختلاف في كتاب الله، فكيف بكتب أهل البدع والأهواء المبنية على التأويل والتعطيل والتحريف؟!

وروى البخاري في صحيحه (7363) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيءٍ وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ، تقرؤونَه مَحْضًا لَمْ يُشَبْ).

قلت: يفهم من كلام ابن عباس رضي الله عنهما أن الكتب المشوبة لا تُقرأ.

ولجهل كثير منا بقواعد اللغة ومعاني القرآن والسنة ومقالة أهل الحديث فلا ينبغي قراءة هذه الكتب، وانظر إلى أشعري كالبلقيني شيخ ابن حجر يقول عن كشاف الزمخشري، كما في الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (2/190): (استخرجت من الكشاف اعتزالًا بالمناقيش).

بالرغم من أن الأشعرية والجهمية أبناء عمومة المعتزلة، فإذا كان هذا الأشعري يقول هذا فكيف بمن هو ضعيف في السنة والاعتقاد؟!

وههنا أمثلة عملية لنبرهن بها على مدى تلاعب هؤلاء المعتزلة كالزمخشري وغيره، وكيف أنهم أدخلوا عقائدهم في التفسير بطريقة قد ينخدع بها أهل السنة فضلًا عن غيرهم، لأن ظاهر كلامهم يكون حسنًا، وهذا ما سأثبته في تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المطر حين نزل: (إنه حديث عهد بربه)، وكيف أن كثيرًا من علماء أهل السنة قد انخدعوا بكلام الأشاعرة وانساقوا وراءهم، وقالوا بقولهم من حيث لا يشعرون.

فانظر لقول الزمخشري في تفسير قول الله عز وجل: (ومن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). يقول الزمخشري: أي فوز أعظم من دخول الجنة؟!

فمن يسمع هذا الكلام للوهلة الأولى يعلم أنه حق ولا شيء فيه، غير أن كلامه هذا فيه إشارة إلى نفي رؤية الله عز وجل يوم القيامة، كما هو اعتقاد المعتزلة والجهمية، وأما أهل السنة فيعتقدون أن هناك فوزًا أعظم من دخول الجنة، ألا وهو رؤية وجه الله تبارك وتعالى.

إلى غير ذلك من تحريفاته اللغوية كقوله: إن (لن) تفيد التأبيد، في قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) (الأعراف:143)، لينفي رؤية الله في الآخرة.

وقد ردَّ أهل اللغة هذا الادعاء كابن هشام؛ حين قال في شرح قطر الندى (112): و(لن) حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق، ولا يقتضي تأبيدا خلافا للزمخشري في أنموذجه، ولا تأكيدا خلافا له في كشافه ، بل قولك: لن أقوم محتمل لأن تريد بذلك أنك لا تقوم أبدا ، وأنك لا تقوم في بعض أزمنة المستقبل).

والزمخشري معتزلي من المعتزلة، بل كان فخورا بالنسبة إليهم حريصا على إثبات ذلك، فكان إذا طرق على أحد الباب، وقيل: من؟ يقول: جار الله المعتزلي.

ومن ذلك تفسيره للباء في (بسم الله الرحمن الرحيم)، فالباء هنا للاستعانة باسم الله المصاحبة لكل فعل. غير أن الزمخشري زعم في كتابه الكشاف أنها للمصاحبة، لأن المعتزلة يرون أن الإنسان مستقل بعمله وليس بحاجة للاستعانة.

ومِن ذلك أيضًا ما زعمه ابن الأثير في كتابه المَثَل السائر في أدب الكاتب والشاعر (1/64) في سورة الأنعام، في قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).

حيث زعم ابن الأثير: أنه لا يجوز الوقف على (السماوات)، لأنه يوهم أن الله في السماء، وهو كغيره من الجهمية يعتقدون أن الله في كل مكان! فافتضحت جهميته بهذا الوقف والابتداء.

وقال ابن الصلاح عن تفسير الماوردي، كما في طبقات الشافعية الكبرى (5/176) : (وتفسيره عظيم الضرر؛ لكونه مشحونًا بتأويلات أهل الباطل تلبيسًا وتدسيسًا على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق).

واليوم مع أنموذج من هذه الشروحات:

قال مسلم في صحيحه (898): وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: (أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ. قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ. حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيثُ ‌عَهْدٍ ‌بِرَبِّهِ تَعَالَى).

وهذا الحديث رواه أحمد (12365)، وأبو داود (5100)، والبخاري في الأدب المفرد (571)، وابن أبى شيبة (26179)، والنسائي في الكبرى (1837)، والدارمي في الرد على الجهمية (76)، وابن حبان (6135)، والحاكم (4/ 317)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 291)، وابن أبى عاصم في السنة (622)، وابن عدى في الكامل (2/ 149)، والبيهقي في سننه (6248)، وفى المعرفة (2085)، وأبو يعلى في مسنده (3426)، والذهبي في العلو (ص55)، وأبو عوانة (رقم 2014، 2105)، والبغوي في شرح السنة (2/ 1325) وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (768)، والسراج في جزء البيتوتة (15)، والروياني في مسنده (1371)، وابن أبى الدنيا في المطر والرعد والبرق (1)، وغيرهم من طرق عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن أنس به نحوه. قال البغوي: هذا حديث صحيح.

غير أن الحافظ ابن عمار الملقب بـ(الشهيد) قد أنكر على مسلم إخراجه لهذا الحديث في صحيحه كما في كتابه علل أحاديث في صحيح مسلم (15)، حيث قال: (وهذا حديث تفرد به جعفر بن سليمان من بين أصحاب ثابت؛ لم يروه غيره، وأخبرني الحسين بن إدريس عن أبى حامد المخلدي عن علي بن المديني قال: لم يكن عند جعفر كتاب؛ وعنده أشياء ليست عند غيره. وأخبرنا محمد بن أحمد بن البراء عن علي بن المديني قال: أما جعفر بن سليمان فأكثر عن ثابت؛ وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير. وسمعتُ الحسين- يعنى ابن إدريس- يقول: سمعت محمد بن عثمان- يعنى ابن أبى شيبة - يقول: جعفر ضعيف).

فهذا حاصل ما قاله ابن عمار في انتقاده على مسلم إخراجه هذا الحديث في صحيحه، والصحيح- والله أعلم- أن الحديث صحيح، "لأن جعفر بن سليمان وإن تكلم فيه جماعة، إلا أنه صدوق قوى الحديث، وقد وثقه ابن المديني وغيره؛ وما قيل عنه من تشيعه فلا يضره في هذا الحديث إذ أن الحديث لا ينصر بدعته.

فضلًا عن كونه كان كثير الرواية عن ثابت البناني؛ حتى لقبه الذهبي بـ (راوية ثابت) كما في تذكرة الحفاظ (1/ 241).

ومن كان مكثرًا لا بد وأن يكون في حديثه غرائب وإفرادات عن بعض شيوخه؛ فكونه كان يروى مناكير عن ثابت، لا يقتضى أن حديثه كله عنه مناكير، فالواجب: هو التنكب عن تلك المناكير؛ وحمل باقي حديثه عن ثابت على السلامة؛ فإن وُجِدَ لبعض المتقدمين من أصحاب هذه الصناعة: كلام يُفْهَم منه الإنكار على جعفر في حديث بخصوصه من روايته عن ثابت، فلا مناص من التسليم لهذا. وإلا فالأصل في حديث جعفر عن ثابت: هو القبول حتى يظهر خلاف ذلك.

وابن عدى هو الذي يعترف بكون جعفر صاحب إفرادات عن ثابت كما في الكامل (2/ 148)، بل وساق له هذا الحديث منها في (ترجمته) تراه يقول في غاية كلامه عنه: (وأحاديثه ليست بالمنكرة، وما كان منها منكرًا؛ فلعل البلاء فيه من الراوي عنه؛ وهو عندي ممن يجب أن يقبل حديثه).

ولم أجد أحدًا من النقاد قد ضعف جعفرًا في ثابت خاصة حتى يصح لابن عمار وغيره أن يعلو له ما شاءوا من رواياته عنه بدعوى مطلق التفرد، ولو أن ابن عمار سلك مسلكًا آخر في إعلال الحديث دون تفرد جعفر به، لكان ربما يكون أنهض لدعوته؛ وأبسط لحجته، وقد خالفه مسلم بن الحجاج - وهو أعلم منه بالحديث وعلله - فأدخل هذا الحديث في صحيحه محتجَّا به؛ والله تعالى المستعان".

انتهى من تعليق السناري عن مسند أبي يعلى (5\206).

وقد ورد عن بعض الصحابة ما يدل على هذه السنة من فعلهم.

ففي أخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني (7232) عن الرَّبِيع قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ السَّمَاءَ مَطَرَتْ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: أَخْرِجْ فِرَاشِي وَرَحْلِي يُصِيبُهُ الْمَطَرُ فَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ تَفْعَلْ هَذَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا). (ق: 9) فَأُحِبُّ أَنْ يُصِيبَ الْبَرَكَةُ فِرَاشِي وَرَحْلِي.

فهذا الحاصل في سند الحديث وما قيل فيه.

وأما المتن، فقد قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (6/ 195): وَمَعْنَى: (حَدِيثُ ‌عهد ‌بربه) أي: بتكوين ربه إياه، ومعناه: أَنَّ الْمَطَرَ رَحْمَةٌ، وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا فَيُتَبَرَّكُ بِهَا.

وأقرَّه على ذلك محمد فؤاد عبدالباقي في تعليقه على صحيح مسلم.

وكل من أتى بعد النووي فسَّره بهذا التفسير المؤول المحرف، كابن حجر العسقلاني والعيني والقسطلاني والقرطبي والعراقي والسيوطي والدميري وزكريا الأنصاري وابن حجر الهيتمي وابن الملك والخطيب الشربيني وابن علان والرملي وابن رسلان والصنعاني والشوكاني والعظيم آبادي في عون المعبود... وخلق كثير، وما تركت اسمه أكثر مما ذكرته ههنا.

كل هذا لينفوا صفة العلو عن الله سبحانه وتعالى.

قال ابن عمر القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/546): (وقوله: لأنه حديث ‌عهدٍ ‌بربه؛ أي: بإيجاد ربّه له، وهذا منه صلى الله عليه وسلم تبرُّك بالمطر، واستشفاء به).

وقال التوربشتي في الميسر في شرح مصابيح السنة (1/358): (حديث ‌عهد ‌بربه): أراد بذلك قرب عهد، بالفطرة وأنه هو الماء المبارك الذي أنزله الله تعالى من المزن ساعتئذ فلم تمسسه الأيدي الخاطئة، ولم يكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله سبحانه فتبركت به لذلك.

وقال البيضاوي في تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/407): (حديث ‌عهد ‌بربه). أي: قريب العهد بالفطرة ، لم يخالطه ما يفسده.

وقال ابن حجر في شرحه على البخاري- ولا أقول: فتح الباري- (2/520): (قال العلماء: معناه قريب العهد بتكوين ربه).

وهكذا قال العيني.

وقال القسطلاني في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (2/253): (حديث ‌عهد ‌بربه- كما في مسلم- أي: قريب العهد بتكوين ربه، ولم تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله تعالى).

قلت: وكأن الأيدي الخاطئة إذا مسته انتفى عنه وصف الفوقية والعلو! ما أعجب الجهمية والأشاعرة!

وقال السيوطي في شرحه على مسلم (2/475): (حَدِيث ‌عهد ‌بربه: أَي بتكوين ربه إِيَّاه، وَالْمعْنَى أَن الْمَطَر رَحْمَة، وَهِي قريبَة الْعَهْد بِخلق الله تَعَالَى فيتبرك بهَا).

وقال في مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (3/1299): (لأنّه حديث ‌عهد ‌بربّه) أي: بتكوينه إيّاه، قال النووي: معناه أنّ المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله لها فيتبرّك بها.

وقال ابن رسلان في شرحه على سنن أبي داود (11/190): (ومعناه أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى).

وقال ابن المَلَك في شرح المصابيح (2/ 286): (لأنه حديث ‌عهد ‌بربه؛ أي: قريب العهد بالفطرة لم يخالطه ما يفسده من الأيدي الخاطئة).

وقال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/1108): (حَدِيثُ ‌عَهْدٍ ‌بِرَبِّهِ: أَيْ: جَدِيدُ النُّزُولِ بِأَمْرِ رَبِّهِ، سَيَكُونُ كَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ، وَالنَّبْتِ وَالزَّهْرِ فِي الرَّبِيعِ مَا اخْتَلَطَ بِالْمُخْتَلِطِينَ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْعَاصِينَ، أَوْ لِكَوْنِهِ نِعْمَةً مُجَدَّدَةً، وَلِذَا قِيلَ: لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ، أَوْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، وَالْقَاصِدِ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَتَكْرِيمُهُ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى قُرْبِ الْعَهْدِ مِنْ عَالَمِ الْعَدَمِ الَّذِي يَتَمَنَّاهُ الْخَائِفُونَ، وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّالِكُونَ الْفَانُونَ; فَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وقال السندي في التعليق على مسند أحمد (19/365): أي: بتكوينه أو بإنزاله.

وكذلك قال أحمد البنا الساعاتي في الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (1727).

وكذلك قال شعيب الأرناؤوط في تحقيق سنن أبي داود (7/429).

والعجيب أن عامة هؤلاء يوردون الحديث في أبواب التبرك والتمطر، مع أن الحديث سيق لإثبات علو الله على خلقه.

وقلدهم وتابعهم في ذلك عامة المعاصرين إلا من رحم الله مثل:

1- محمد بن صالح العثيمين:

كما في الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/225) حيث قال: (وقوله في الحديث: (إنه كان حديث عهد بربه)، لأن الله خلقه الآن، فهو حديث عهد بخلق الله).

وفي اللقاء الشهري للعثيمين (6/6 بترقيم الشاملة آليا) قال: (لأنه حديث ‌عهد ‌بربه) الله أكبر! لأنه مخلوق؛ فهو حديث عهد بالله عز وجل).

وفي جلسات رمضانية للعثيمين (4/4 بترقيم الشاملة آليا): (إنه حديث ‌عهدٍ ‌بربه أي: مخلوق جديد، فيصيب بدني من حين أن خُلق، ولا أحد يستطيع أن يخلق إلا الله عز وجل).

وقال في كتابه فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 458): (إنه حديث ‌عهد ‌بربه. يعني: قريب عهد بالله عز وجل لماذا؟ لأنه خلق الآن فهو حديث ‌عهد ‌بربه).

قلت: فصرف المعنى من العلو الذي تنكره الجهمية والأشعرية، إلى الخلق الذي يقر به حتى المشركون.



2- صالح الفوزان:

حيث قال في شرح بلوغ المرام، كتاب الصلاة، الشريط (32): (قال ﷺ: (إنه حديثُ عهدٍ بِربِّه). ليس المعنى أنَّه نازِلٌ مِن عند الله في العُلو؛ لأنَّه نازلٌ مِن السَّحاب، واللهُ- جلَّ وعلا- خلقَهُ في السَّحاب، وأنزله من السَّحاب، معنى: (حديثُ عهدٍ بربِّه)؛ يعني: بِخلقِ الله له، وإنزالِه له، لم يُخالطه غيره مِن مواد الأرض، فهو باقٍ على بركته وطهوريَّته، فينبغي المبادرة لتلقِّيه والتَّعرُّضِ له).

3- عبدالله بن جبرين:

وقد سئل في موقعه على الشبكة العنكبوتية السؤال التالي:

ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه حديث عهد بربه؟ ومتى يقولها؟

الإجابة: لما نزل المطر مرَّة خرج النّبي صلى الله عليه وسلم من المنزل وكشف عن رأسه ليُصيبه المطر وأخذ يمسح رأسه بما أصابه ويقول: (إنه حديث عهد بربه)، يعني: أنَّ هذا المطر حديث عهد بالله، فالله هو الذي أنزله من السماء وهو الذي خلقه وسخَّره، وهو الذي أمر بإنزاله، فيقول هذه الكلمة إذا خرج إلى المطر وأصابه فابتلَّ رأسه وابتَّلت ثيابه رجاء بركته. والله أعلم، رقم الفتوى: (590).



4- عبدالمحسن العباد البدر:

فقال كما في شرح سنن أبي داود (578/ 31 بترقيم الشاملة آليا): (ومعلوم أن المطر إنما يأتي من السحاب المسخر بين السماء والأرض، وهو لا يأتي من السماوات المبنية، وإنما الله عز وجل يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه بين السماء والأرض، ثم ينزله حيث يشاء وينفع به من يشاء من عباده، ويضر به من يشاء من عباده، وليس المقصود من قوله: (لأنه ‌حديث ‌عهد ‌بربه) أنه نزل من فوق العرش، وإنما المقصود أن الله عز وجل أنزله، كما قال عز وجل: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) (الفرقان:48) وقوله عز وجل: (أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ) (الواقعة:69)، فهذا هو المقصود من قوله: (‌حديث ‌عهد ‌بربه)، يعني: أنه بإنزال ربه وبإيجاد ربه، وليس معنى ذلك أنه جاء من فوق العرش؛ لأن المطر يأتي من السحاب المسخر بين السماء والأرض).

قلت: وفي كلام الفوزان وعبدالمحسن العباد أغلاط كثيرة مخالفة للأثر، فضلًا عن صرف معنى الحديث عن ظاهره إلى تأويلات الجهمية.

قال ابن رجب في شرح البخاري (9/234): (وروى بإسناده- يعني: ابن أبي الدنيا- عن جابر الجعفي، عن عبدالله بن نجي، قالَ: كانَ علي رضي الله عنه إذا مطرت السماء خرج فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: (بركة نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء).

وبإسناده عن أبي الأشعر، قالَ: رأيت أبا حكيم إذا كانت أول مطر تجرد، ويقول: إن عليًّا كانَ يفعله، ويقول، أنه حديث عهد بالعرش.

وهذا يدل على أن عليًّا كانَ يرى أن المطر ينزل من البحر الذي تحت العرش.

وحديث العباس بن عبد المطلب، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذكر السحاب والمزن والعنان، وبعد ما بين السماء والأرض، وبعد ما بين السموات بعضهما من بعض، وأن فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله، مثل ما بين سماء إلى سماء - شهد ذَلِكَ. وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم. وقال: صحيح الإسناد. وقال الترمذي: حسن غريب.

وكذلك قاله عكرمة وخالد بن معدان وغيرهما من السلف: المطر ينزل من تحت العرش.

وروي عن ابن عباس من وجوه ما يدل عليهِ.

وأما من قالَ: أن المطر كله من ماء البحر؛ فإنه ما لا علم لهُ به.

فإن استدل بأنه يشاهد اغتراف السحاب من البحر، فقد حكم حكما كليا بنظر جزئي، ومن أين لهُ أن كل السحاب كذلك؟

وقد خرَّج ابن أبي الدنيا بإسناده، عن خالد بن يزيد: منه من السماء، فلا ما يستقيه الغيم من البحر، فيعذبه الرعد والبرق، فإما ما يكون من البحر، فلا يكون لهُ نبات، وأما النبات فما كانَ من ماء السماء، وقال إن شئت أعذبت ماء البحر، فأمر بقلال من ماء، ثُمَّ وصف كيف يصنع حتَّى تعذب). انتهى كلام ابن رجب.

وزيادة على كلام ابن رجب، فقد روى ابن أبي الدنيا في المطر والرعد والبرق (3) عَنْ عَبْدَةَ ابْنَةِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: (الْمَطَرُ يَنْزِلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ إِلَى سَمَاءٍ سَمَاءٍ، حَتَّى يَأْتِيَ سَمَاءَ الدُّنْيَا، فَيُجْمَعُ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الْإِبْرَمُ، ثُمَّ تَجِيءُ السَّحَابَةُ السَّوْدَاءُ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَتُنَشِّفُهُ، ثُمَّ يُصَرِّفُهُ اللَّهُ عز وجل حَيْثُ يَشَاءُ).

والعجيب أن عبدالمحسن البدر قال في نفس الشرح: هل يمكن الاستدلال بحديث حسر الثوب عند نزول المطر على علو الله عز وجل؟

ثم أجاب بقوله: لا يظهر أن فيه دليلاً! لأن معنى قوله: (حديث عهد بربه) يعني: بإنزال ربه، وقد جاء أكثر من ألف دليل في القرآن والسنة كلها تدل على علو الله سبحانه وتعالى. انتهى.

قلت: والله إني لأعجب من هذا الكلام، وكيف يتلفظ به رجال أمثال هؤلاء؟! وقد تقدم كلام الدارمي في الاستدلال بهذا الحديث على علو الله سبحانه على خلقه.

وكأن القوم لم يقرأوا كتب السلف! ولا عجب فقد صرفوا أوقاتهم في قراءة وشرح كتب الخلف من الجهمية والأشاعرة وممن تأثر بأقوالهم!

5- فيصل بن عبدالعزيز المبارك النجدي (ت ١٣٧٦هـ):

حيث قال نفس المعنى، كما في كتابه بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار.

6- ابن قاسم:

فقال كما في حاشية الروض المربع (2/559): (حديث ‌عهد ‌بربه)، أي جديد قريب لم يتناول بعد، ولم يتغير بملابسة شيء.

7- عبدالعزيز الراجحي:

كما في كتابه توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (898).

8- وهبة الزحيلي:

فقال كما في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (2/1456): (إنه حديث ‌عهد ‌بربه): أي بخلقه وتنزيله وتكوينه.

9- سعيد بن وهف القحطاني:

حيث قال كما في كتابه نور السنة وظلمات البدعة في ضوء الكتاب والسنة (ص75): (قال الإمام النووي رحمه الله: (ومعنى حديث ‌عهد ‌بربه: أي بتكوين ربه إياه، ومعناه أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها، فيُتبرّك بها).

وكررها مرة أخرى في كتابه: عقيدة المسلم في ضوء الكتاب والسنة.

10- محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي:

كما في كتابه البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (17/568)، بل نقل كلام القاضي عياض في التأويل الصريح لها، فقال: (وقال القاضي عياضٌ: قال بعض أهل المعاني: معناه: حديث عهد بالكون بإرادة الرحمة).

11- عبدالقادر شيبة الحمد:

كما في شرح بلوغ المرام (2/255).

12- حمد الحمد:

كما في شرح زاد المستقنع (8/121).

13- عبدالله بن صالح الفوزان:

كما في منحة العلام في شرح بلوغ المرام (4/190).

قلت: والذي عليه أهل السنة بخلاف هذا، وإنما سيق الحديث لبيان علو الله على خلقه، وأن الله مستو على عرشه فوق سماواته.

وقد ذكره الدارمي في الرد على الجهمية (ص53) في باب: اسْتِوَاءِ الرَّبِّ تبارك وتعالى عَلَى الْعَرْشِ وَارْتِفَاعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبَيْنُونَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا أَنْكَرُوهُ.

ولو كان معناه أنه حديث الخلق أو التكوين لما ذكروه في الرد على الجهمية، وإثبات فوقية الله على خلقه.

بل لم يكن بين المطر وبين غيره من الأجنة وحديثي الولادة فرق إذا الكل حديث عهد بالخلق والتكوين.

ولو كان إنزال المطر لا يدل على علو الله، وأن الله في كل مكان كما يقوله المفترون، فلماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استسقى ودعا ربه بإنزال المطر يرفعه يديه إلى السماء؟!

فكل من تقدم اسمه- سواء من المتأخرين أو المعاصرين وسواء من الأشاعرة أو من أهل السنة- فقد أول الحديث بالتأويل الباطل، والواجب حمل معنى الحديث على ظاهره والدلالة على علو الله، دون تأويل معناه بأنه حديث العهد بالخلق أو التكوين.

فكلهم صرفوا الحديث عن ظاهره، وأولوه على الخلق والتكوين، ولم يشيروا إلى العلو الذي سيق لأجله الحديث.

قال أبو سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (76): حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، رضي الله عنه قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَسَرَ عَنْهُ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: (لِأَنَّهُ حَدِيثُ ‌عَهْدٍ ‌بِرَبِّهِ).

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الدارمي: وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الزَّائِغَةُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، مَا كَانَ الْمَطَرُ أَحْدَثُ عَهْدًا بِاللَّهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ وَالْخَلَائِقِ. انتهى.

وذكره كذلك ابن أبي عاصم في السنة (622) في معرض إثبات علو الله على خلقه، لأن الحديث تعلقه بالعلو أكثر من تعلقه بالتبرك الذي ركز عليه الأشاعرة في شروحهم.

وفي أخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني (823) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَكْشِفُونَ رُؤوُسَهُمْ فِي أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَكُونُ مِنَ السَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَيَقُولُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ أَحْدَثُ عَهْدٍ بِرَبِّنَا، وَأَعْظَمُهُ بَرَكَةً.

هكذا (أحدث عهد) بصيغة التفضيل، ولم يقل: أحدث خلق.

ومما يؤكد ذلك المعنى- وهو إثبات علو الذات لله- ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (26178) عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ- وفي لفظ: رأى- الْمَطَرَ خَلَعَ ثِيَابَهُ وَجَلَسَ، وَيَقُولُ: (حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْعَرْشِ).

وروى ابن أبي الدنيا في المطر والرعد والبرق (38) عَنْ أَبِي سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا حَكِيمٍ إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ مَطَرٍ تَجَرَّدَ وَيَقُولُ: إِنَّ عِلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يَفْعَلُهُ، وَيَقُولُ: (إِنَّهُ ‌حَدِيثُ ‌عَهْدٍ ‌بِالْعَرْشِ)

ويلاحظ في بعض الروايات التي ذكرت نزول المطر وأنه حديث عهد بربه أنه يذكر معها لفظة (السماء) وتقييد الإنزال بالسماء يفيد العلو لا شك.

أما عند الجهمية والأشاعرة فيعنون بكلمة (في السماء) أي: الذي ملكه في السماء، فيعتقدون أن الله ينزل المطر من ملكه الذي في السماء، أما هو سبحانه وتعالى فهو في كل مكان، هكذا يعتقدون.

ولم ينج من هذا التأويل المحرف فيما علمت من المعاصرين غير قلة قليلة:

قال عبدالعزيز بن باز كما في الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (3/ 275): (حديث عهد بربه)، لأنه نزل من العلو، كلما كان أعلى كان أقرب إلى الله).

وقال البسام في توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/ 92): (الله جلَّ وعلا في جهة العلو، والمطر نازلٌ من العلو، فهو وإن لم يبلغ علوَّ الله سبحانه وتعالى، فهو آتٍ من العلو).

وههنا فائدة أخرى دلَّ عليها هذا الحديث ألا وهي إثبات الصفات والأفعال الاختيارية لله سبحانه وتعالى.

والصفات الاختيارية: هي الأمور التي يتصف بها الرب عزّ وجل فتقوم بذاته وتتعلق بمشيئته وقدرته، حيث يفعلها سبحانه متى شاء وكيف شاء؛ كالمجيء والنزول، والرضا والغضب، والفرح، والضحك، والاستواء، والخلق ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب والسُّنَّة.

روى البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن (6/128): قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ ـ وذكر أشياء منها: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، (عَزِيزًا حَكِيمًا)، (سَمِيعًا بَصِيرًا)، فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس رضي الله عنه: سمَّى نفسه ذلك، وذلك قوله؛ أي: لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئًا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن.

وقال الفضيل بن عياض: (إذا قال لك جهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء).

أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (36)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (3/204 ـ 205).

وقال الإمام أحمد كما في الرد على الجهمية والزنادقة (139): (إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام).

وقال أبو سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (155): (فالله المتكلم أولًا وآخرًا، لم يزل له الكلام؛ إذ لا متكلم غيره، ولا يزال له الكلام إذ لا يبقى متكلم غيره، فيقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر: 16]).

وقال ابن أبي زمنين في أصول السُّنَّة (88): (ومن قول أهل السُّنَّة: أن الله عزّ وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).

وحكى غير واحد إجماع السلف والأئمة على إثبات الصفات الاختيارية لله، وهي الأمور التي يتصف بها الرب عزّ وجل فتقوم بذاته وتتعلق بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه وسمعه وبصره وإرادته ومحبته ورضاه ورحمته وغضبه وسخطه؛ ومثل خلقه وإحسانه وعدله؛ ومثل استوائه ومجيئه وإتيانه ونزوله ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسُّنَّة.

وقال الباحث عبدالمجيد الوعلان في بحثه عن الدلالات العقدية للآيات الكونية (ص396): (من المخالفات العقدية المتعلقة بهذه الآيات الكونية تحريف قوله صلى الله عليه وسلم: (حديث عهد بربه)، وأن المراد به ظهور متعلق الإرادة، وأن إرادة الله قديمة.

وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الله عز وجل فعال لما يريد، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، وقال تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ).

فالله عز وجل متصف بصفة الإرادة ولم يزل متصف بتلك الصفة، وإرادة الله جل وعلا متجددة، فما من شيء يحدث في ملكوت الله إلا وقد شاءه الله جل وعلا حال كونه وأراده، كما أنه جل وعلا شاءه في الأزل وأراده.

فمشيئته في الأزل بمعنى إرادة إحداثه في الوقت الذي جعل الله جل وعلا ذلك الشيء يحدث فيه، لكن من حيث تعلقها بالمعين هذا متجددة. وفي هذا الحديث إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل).

وقال في صفة العلو: سبق بيان أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحسر عن ثوبه عند نزول المطر، وعندما سئل عن ذلك قال: "إنه ‌حديث ‌عهد ‌بربه"، لأنه نزل من جهة العلو.

وهذا من الأدلة التي فيها إثبات علو الله تعالى، وأنه فوق السماوات، وقد ذكر هذا الحديث الذهبي في كتابه العلو في سياق الأحاديث الدالة على علو الله.

ولو كان على ما يقول المبتدعة من أن الله في كل مكان، ما كان المطر أحدث عهداً بالله من غيره من المياه والخلائق). انتهى.

قلت: وإني لأجزم بعدم اعتقاد نفي العلو عن الله عن كل المعاصرين الذين ذكرتهم في هذا البحث، غير أن هذه آفة التعلق بأهل البدع.

وما سبق من تأويلات الجهمية والأشاعرة لهذا الحديث، وتأثر المعاصرين بذلك لخير دليل على عدم جواز النظر في كتب المبتدعة حتى لو كان الإنسان منسوبًا للعلم، فالعلم شيء ومعرفة السنة ومنهج أهل السنة شيء آخر.

وقد بُحت أصوات أهل السنة قديمًا وحديثًا بعدم جواز النظر في كتب المبتدعة أو الانسياق وراء شروحهم للأحاديث أو تفسيرهم للقرآن، حتى ولو كانوا من أمثال النووي وابن حجر.

وما الذي ننتظره من هذه الكتب؟

الآيات: أولوها.

العقيدة: حرفوها.

السنة: طمسوها.

السيرة: ضعفوها.

بل في الفقه وأصوله جعلوها مذهبية بغيضة.

وفي الآداب والأخلاق: نجدهم سبابة شتامة، ينبزون أهل السنة بأبشع الأوصاف وأقذع الألقاب، كالمشبهة والمجسمة، وهو صنيع ابن حجر والنووي.

قال ابن حجر في شرح البخاري (3/30) في شرحه لحديث: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) قال: (وقد اختُلف في معنى النزول على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته، وهم المشبِّهة تعالى الله عن قولهم). اهـ

فسمى أهلَ السنة مشبهة، وبعضهم سماهم مجسمة، كما هو صنيع النووي في شرحه على صحيح مسلم، والشوكاني في إرشاد الفحول وغيره من كتبه.

قال قتيبة بن سعيد: (إذا رأيت الرجل يقول- أي: عن أهل السُّنة- المشبِّهة فاحذره؛ فإنه جهمي).

وقيل لأبي إسحاق ابن شاقلا البزار كما في طبقات الحنابلة: (أنتم المشبهة فقال: حاشا لله؛ المشبِّهة الذي يقول: وجهٌ كوجهي ويدٌ كيدي. فأما نحن فنقول: له وجهٌ كما أثبت لنفسه وجهًا، وله يدٌ كما أثبت لنفسه يدًا، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومن قال هذا فقد سلم).

فإذا كان هذا هو حال هؤلاء، فماذا بقي لهم من العلم؟!

وإن تعجب فاعجب لرجل يدعي الحديث، ويُدعى بين الناس بالمحدث، ألا وهو حماد بن محمد الأنصاري، فقال كما في المجموع في ترجمته (2/584): (سألني بعض الشباب ما تقول في قراءة ‌كتب ‌المبتدعة مثل ابن حجر والنووي وغيرها؟ فقلت لهم: لو كنت مسؤولًا لكبلتكم ورميتكم في السجون، وسؤالهم هذا سؤال إضلال وضلال).

يقول بهذا! وهو المحدث الذي درس الجرح والتعديل حفاظًا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقول بهذا في شأن المبتدعة حفاظًا على شريعة ربِّ العالمين من انحراف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين!

قال الخلال في السنة (820): (أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ, قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَلاَّمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ مِنَ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ أَيُّوبَ, وَكَانَ رَجُلاً صَالِحًا, حَدَّثَنَا عَنْهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ, ثُمَّ قَالَ أَبِي: كَانَ أَبُو عَوَانَةَ وَضَعَ كِتَابًا فِيهِ مَعَايِبُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ بَلاَيَا, فَجَاءَ إِلَيْهِ سَلاَّمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ, فَقَالَ: يَا أَبَا عَوَانَةَ! أَعْطِنِي ذَلِكَ الْكِتَابَ, فَأَعْطَاهُ, فَأَخَذَهُ سَلاَّمٌ فَأَحْرَقَهُ).

وقال الخلال (821): (أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ, قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِالله: اسْتَعرْتُ مِنْ صَاحِبِ حَدِيثٍ كِتَابًا- يَعْنِي فِيهِ الأَحَادِيثَ الرَّدِيئَةَ- تَرَى أَنْ أُحَرِّقَهُ, أَوْ أُخَرِّقُهُ؟ قَالَ : نَعَمْ, لَقَدِ اسْتَعَارَ سَلاَّمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ مِنْ أَبِي عَوَانَةَ كِتَابًا, فِيهِ هَذِهِ الأَحَادِيثُ, فَأَحْرَقَ سَلاَّمٌ الْكِتَابَ, قُلْتُ: فَأَحْرِقُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ).

قلت: فإذا كان السَّلف يحرقون الكتب التي تتناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يتناول صفات رب العالمين بالتأويل والتحريف؟!

والخلاصة:

أن هذا الحديث الذي رواه مسلم وغيره من كون المطر حديث عهد بربه، فيه ثلاث فوائد:

الفائدة الأولى: أن الحديث دليل على علو الله على خلقه، وأنه سبحانه مستو على عرشه فوق سماواته.

الفائدة الثانية: قد هلك في تفسيره طائفتان:

الطائفة الأولى: هي الجهمية والأشاعرة، حيث فسروه بحديث الخلق والتكوين، لينفوا صفة العلو عن الله سبحانه وتعالى.

الطائفة الثانية: هي المعاصرون، حيث فسروه بنفس تفسير الجهمية والأشاعرة- غير أنهم لم يقصدوا نفي العلو عن الله- ولكن بسبب تأثرهم واقتدائهم وتعظيمهم للجهمية والأشاعرة، ونقلهم عنهم دون تحقيق أو تحرٍّ.

الفائدة الثالثة: أن الحديث دليل على قيام الصفات والأفعال الاختيارية لله، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء كيفما يشاء، وأنه سبحانه لم يزل متصفًا بهذه الصفات غير أن أفرادها حادثة، خلافًا للجهمية والأشعرية.



هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


أبو رزان

محمد بن عبدالحليم
صفر 1446
author-img

أبو رزان محمد بن عبدالحليم

Kommentare
    NameE-MailNachricht