JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

recent
مياومة
الصفحة الرئيسية

حكم القراءة عند القبور!

 بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

لم يكن من عمل السلف قراءة القرآن على القبور، وإنما السنة في زائر القبور أن يتذكر الآخرة كما في الحديث، وأن يدعو للميت المزور ويستغفر له، ولم يكن الأمر يتعدى ذلك سواء بقراءة القرآن أو غيرها.

وقد مات عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه، وزوجته خديجة، وثلاث من بناته، فضلًا عمن مات من أصحابه في حياته، ومع ذلك لم يرد أنه قرأ على واحد منهم القرآن، لا في بيته ولا على قبر أحدهم.

بل روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير. أما هذا فكان لا يستنزه من البول. وأما هذا فكان يمشي بالنميمة. ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين ثم غرس على هذا واحدًا، وعلى هذا واحدًا، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).

ولو كانت القراءة نافعة للميت بعد موته، لفعله النبي صلى الله عليه وسلم أو أرشد إليه، فقراءة كلام الله الذي هو غير مخلوق، خير للميت من غرس رطبة مخلوقة!

ومما احتج به من رأى جواز القراءة على القبور ما جاء من أحاديث وآثار ذكرها أبو بكر بن الخلال في كتابه: القراءة عند القبور.

غير أن الأحاديث والآثار التي ذكرها الخلال لا تصح، فهذا الباب لا يصح فيه شيء من المرفوعات، كما قال الدراقطني.

وما صحَّ من الآثار فيها فله توجيه سيأتي في حينه، وأما مذهب السلف في ذلك فهو الكراهة.

قال الخلال في كتابه القراءة عند القبر (1): أخبرنا العباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا مبشر الحلبي، قال: حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه، قال: إني إذا أنا مت، فضعني في اللحد، وقل: بسم الله، وعلى سنة رسول الله، وسن علي التراب سنا، واقرأ عند رأسي بفاتحة الكتاب وأول البقرة وخاتمتها، فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك.

قال الدوري: سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبور شيئًا؟ فقال: لا. وسألت يحيى بن معين، فحدثني بهذا الحديث. انتهى.

قلت: الحديث لا يصح، فإن عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج مجهول، لم يرو عنه سوى مبشر، كما ذكر ذلك صاحب الميزان (2/ 579)، بل وأشار أبو زرعة والترمذي إلى أنه لا يعرف، كما في جامع الترمذي (995)، فقال الترمذي: (سَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقُلْتُ لَهُ مَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَلاَءِ؟ فَقَالَ: هُوَ ابْنُ الْعَلاَءِ بْنِ اللَّجْلاَجِ. وَإِنَّمَا عَرَّفَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ)، فسؤال الترمذي عنه دليل على جهالته، وكذلك أبو زرعة لم يزد عن تعريفه باسمه، فقال: هو فلان بن فلان، دون تعديل له أو ثناء عليه.

ومما يدل على ضعف الرواية اضطرب عبدالرحمن بن العلاء المجهول في روايتها، فمرة يحدث عن أبيه أنه قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك. ومرة يحدث عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

أما والده- العلاء بن اللجلاج- فلم يرو عنه سوى اثنان: ولده– عبدالرحمن المجهول- وحفص بن عمر بن ثابت؛ وهذا منكر الحديث، كما في الجرح والتعديل (3/180)، فلا تثبت إلى العلاء رواية، ولذلك لم يعتمد الذهبي توثيق العجلي وذكر ابن حبان له في الثقات- وهما متساهلين- فقال في الكاشف: وُثِّق، فيكون العلاء مجهول العين على الصحيح. وعليه فالحديث شديد الضعف لتعدد العلل فيه).

وقول ابن حجر عن عبدالرحمن بن العلاء أنه مقبول، يقصد به عند المتابعة، وإلا فهو لين الحديث، كما نص عليه في المقدمة.

ومما يدل على جهالة الراوي مع استنكار المتن، أن الدوري قال: سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبور شيئًا؟ فقال: لا. وسألت يحيى بن معين، فحدثني بهذا الحديث.

فهذا الأثر لا يعرفه أحمد، بل هو شاذ لم يصح سنده، ولم يتابعه عليه أحد من الصحابة، فكيف يقال: صححه أحمد، وهو لا يعرفه؟!

ويحيى ابن معين حدث به حين طلب منه الدوري ذلك، دون تعليق عليه، وإنما مجرد تحديث، وليس تحديث العالم بالحديث دليل على تصحيحه له أو استشهاده به، كما يظن.

ولو صح الحديث، فإنه محمول على القراءة عقب الدفن، كما هو جلي في هذا الحديث، حيث قال: (إني إذا أنا مت، فضعني في اللحد... إلى أن قال: واقرأ عند رأسي بفاتحة الكتاب وأول البقرة وخاتمتها).

وليس بعد موت الإنسان بشهر أو سنة فضلا عن مئات السنين، كمن يذهب إلى قبور الصالحين من الصحابة وغيرهم، ويقرأ عند قبورهم القرآن، كما تفعل الصوفية.

ثم قال الخلال في الحديث الثاني (2): وأخبرني العباس بن محمد بن أحمد بن عبد الكريم، قال: حدثني أبو شعيب عبد الله بن الحسين بن أحمد بن شعيب الحراني من كتابه قال: حدثني يحيى بن عبد الله الضحاك البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك الحلبي الزهري، مولى آل سعد بن أبي وقاص قال: سمعت عطاء بن أبي رباح المكي، قال: سمعت ابن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مات أحدكم فلا تجلسوا، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمتها في قبره».

قلت: الحديث لا يصح، فيه أيوب بن نهيك الحلبي الزهري ضعيف الحديث، قال عن ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (930): (سمعت أبي يقول: هو ضعيف الحديث، وسمعت أبا زرعة يقول: لا أحدث عن أيوب بن نهيك. ولم يقرأ علينا حديثه وقال: هو منكر الحديث).

وقال الأزدي عنه: (متروك الحديث). وقال عنه ابن حبان: يخطئ.

وكذلك الراوي عنه يحيى بن عبد الله الضحاك البابلتي ضعيف الحديث.

وقال الخلال (3): وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق، قال: حدثني علي بن موسى الحداد، وكان صدوقا، وكان ابن حماد المقرئ يرشد إليه، فأخبرني قال: «كنت مع أحمد بن حنبل، ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر، قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبدالله، ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئا؟ قال: نعم، قال: فأخبرني مبشر، عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه، أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع، فقل للرجل يقرأ.

ثم قال الخلال: وأخبرنا أبو بكر بن صدقة، قال: سمعت عثمان بن أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل في جنازة ومعه محمد بن قدامة الجوهري، قال: فلما قبر الميت، جعل إنسان يقرأ عنده، فقال أبو عبد الله لرجل: تَمُرُّ إلى ذلك الرجل الذي يقرأ، فقل له: لا يفعل، فلما مضى، قال له محمد بن قدامة: مبشر الحلبي، كيف هو؟ فذكر القصة بعينها.

قلت: هذا الأثر هو أقصى ما يستدل به من رأى جواز القراءة على القبور، ولا دليل في ذلك، ففيه محمد بن قدامة الجوهري، قال عنه ابن معين: (ليس بشيء). وقال أبو داود: (ضعيف، لم أكتب عنه شيئًا).

فكيف برجل هكذا في الضعف، بل ليس بشيء في الحديث، ثم يقنع أحمد بروايته لجواز القراءة على القبور، ويعدل عن قوله ببدعة القراءة على القبر لمجرد تحديث هذا الضعيف له بهذه القصة؟!

وأيضا هذا الأثر مخالف لما هو مشهور عن أحمد في ذلك:

قال أبو داود، كما في مسائله لأحمد (1062): سمعت أحمد سئِلَ عن القراءة عند القبر؟ فقال: لا.

قال ابن هانئ في مسائله لأحمد (946): سألت أبا عبداللَّه عن القراءة على القبر؟ قال: القراءة على القبر بدعة.

وقال عبدالله بن أحمد في مسائله (544): سألت أبي عن الرجل يحمل معه المصحف إلى القبر يقرأ عليه؟ قال: هذِه بدعة. قلت لأبي: وإن كان يحفظ القرآن يقرأ؟ قال: لا، يجيء ويسلم، ويدعو وينصرف. الزيارة بعد حين رخص النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم فيها. يقولون ذاك.

ونقل المروذي عنه أنه قال: القراءة عند القبر بدعة، وإن نذر أن يقرأ كفَّر عن يمينه ولم يقرأ؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان ليفر من البيت يقرأ فيه البقرة" (1) فلولا أن المقبرة لا يقرأ فيها لم يشبه البيت الذي لا يقرأ فيه بالمقبرة. انظر: الروايتين والوجهين (1/ 212)، والفروع (2/ 305).

وقال محمد بن البزار، كما في الطبقات (2/ 391): كنت مع أبي عبداللَّه أحمد بن حنبل في جنازة، فأخذ بيدي، وقمنا ناحية، فلمَّا فرغ الناسُ من دفنه وانقضى الدفن، جاء إلى القبر وأخذ بيدي وجلس ووضع يده على القبر فقال: اللهمَّ إنك قلت في كتابك الحق: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ). إلى آخر السورة. اللهم وأنا أشهد أن هذا فلان بن فلان، ما كذب بك، ولقد كان يؤمن بك وبرسولك رحمه الله، اللهمَّ فاقبل شهادتنا له، ودعا له وانصرف.

وليس فيها أنه قرأ سورة من القرآن، وإنما دعا وانصرف.

 فهذِه هي الروايات الصحيحة عن أحمد، والتي رواها عنه أكثر أصحابه، وعليها قدماء أصحابه، حتى قال أبو حفص بن مسلم العكبري: وقد روي عن أبي عبدالله بضع عشرة نفسا كلهم يقول: بدعة ومحدث فأكرهه، وبهذه الرواية أقول.

وأما حكاية رجوعه عنها المروية في كتاب الخلال هذا، لا تصح، ففيها مجاهيل، كما سبق بيانه، ولا تتلاءم مع ما عرف عن أحمد من كراهية الإحداث في الدين.

وهي ليست رجوعًا- كما ظنه بعضهم- وإنما هي في أحسن حالها رواية أخرى- لها ملابسات معينة- وليست تراجعًا، إذ كيف يتراجع أحمد عن بدعة إلى سنة؟! لا أعلم لهذه المسألة نظيرًا عن أحمد!

فإن صحت، فإن روايات المنع أكثر منها، فضلًا عن كونها في حال دفن الميت، وليس بعدما أرم.

وأما قاله عبد اللَّه بن أحمد كما في مسائله (543): سمعت أبي سُئِلَ عن رجل يقرأ عند القبر على الميت. قال: أرجو أن لا يكون به بأس.

فهذا محمول على الميت الذي مات لتوه، وهذا جائز كما تقدم، ولذلك هنا في الأثر ذكر الميت، فقال: (يقرأ عند القبر على الميت)، وباقي الآثار التي تكلمت عن ذلك ذكرته بلفظ القبر دون الميت.

والذي يتمسك بقول أحمد في جواز القراءة على القبر، ويترك عشرات الروايات في المنع من ذلك، كمن يتمسك بما ذكره صاحب التمهيد (10/ 301) عن الأثرم قال: سمعت أبا عبداللَّه يُسئل عن المرأة تزور القبر؟

فقال: أرجو إن شاء اللَّه أن لا يكون به بأس، عائشة زارت قبر أخيها، قال: ولكن حديث ابن عباس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لعن زوَّارات القبور، ثم قال: هذا أبو صالح ماذا؟ كأنه يضعفه، ثم قال: أرجو إن شاء اللَّه، عائشة زارت قبر أخيها.

فلا يتمسكن أحد بهذه الرواية عن أحمد في جواز زيارة النساء للقبور، ويترك عشرات الروايات عنه في المنع من ذلك.

ثم قال الخلال (4): أخبرني العباس بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن الحسين النيسابوري، عن سلمة بن شبيب، قال: « أتيت أحمد بن حنبل فقلت له: إني رأيت عفان يقرأ عند قبر في المصحف، فقال لي أحمد بن حنبل: ختم له بخير».

5- أخبرني الحسن بن الهيثم البزاز، قال: « رأيت أحمد بن حنبل يصلي خلف رجل ضرير يقرأ على القبور».

قلت: ليس في هذا الأثر ولا الذي قبله ما يشير إلى جواز قراءة القرآن على القبر، على فرض صحتها. فأحمد رحمه الله صلى خلف الجهمية، فهل هذا دليل على تصحيح دين الجهمية؟!

ثم قال الخلال (6): أخبرني روح بن الفرج، قال: سمعت الحسن بن الصباح الزعفراني، يقول: «سألت الشافعي عن القراءة عند القبر، فقال: لا بأس به».

قلت: من المعلوم أن مذهب الشافعي عدم جواز إهداء ثواب الأعمال الذاتية أو القرب التي تقوم بالبدن، كالصلاة ونحوها للموتى، عملًا بقول تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى).

ﻭﻗﺎﻝ ذاك اﻟﻨﻮﻭﻱ، كما في شرحه على صحيح مسلم: ﻭﺃﻣﺎ ﻗﺮاءﺓ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﺟﻌﻞ ﺛﻮاﺑﻬﺎ ﻟﻠﻤﻴﺖ ﻭاﻟﺼﻼﺓ ﻋﻨﻪ ﻭﻧﺤﻮﻫﺎ، ﻓﺬﻫﺐ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻭاﻟﺠﻤﻬﻮﺭ ﺃﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻠﺤﻖ اﻟﻤﻴﺖ. انتهى.

قلت: وإن صح هذا الأثر عن الشافعي، فقد قال الشافعي، كما رواه ابن أبي حاتم في كتاب: (فضائل الشافعي) عنه قال: (كل ما قلتُ، فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولا تقلدوني). اهـ

قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/263): (لم يقل أحد من العلماء بأنه يستحب قصد القبر دائمًا للقراءة عنده، إذ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن ذلك ليس مما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. لكن اختلفوا في القراءة عند القبور: هل تكره، أم لا تكره؟ والمسألة مشهورة، وفيها ثلاث روايات عن أحمد:

إحداها: أن ذلك لا بأس به. وهي اختيار الخلال وصاحبه، وأكثر المتأخرين من أصحابه. وقالوا: هي الرواية المتأخرة عن أحمد، وقول جماعة من أصحاب أبي حنيفة، واعتمدوا على ما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتيح البقرة، وخواتيمها. ونقل أيضًا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة.

والثانية: أن ذلك مكروه. حتى اختلف هؤلاء: هل تقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة إذا صُلِّيَ عليها في المقبرة؟ وفيه عن أحمد روايتان، وهذه الرواية هي التي رواها أكثر أصحابه عنه، وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه، كعبدالوهاب الوراق وأبي بكر المروزي، ونحوهما، وهي مذهب جمهور السلف... ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة. وقال مالك: (ما علمت أحدًا يفعل ذلك)، فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه.

والثالثة: أن القراءة عنده وقت الدفن لا بأس بها، كما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما، وبعض المهاجرين، وأما القراءة بعد ذلك- مثل الذين ينتابون القبر للقراءة عنده- فهذا مكروه، فإنه لم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلًا. وهذه الرواية لعلها أقوى من غيرها، لما فيها من التوفيق بين الدلائل). انتهى كلامه، ولعله يلخص كل ما ورد في الباب.

ثم قال الخلال: (7): أخبرني أبو يحيى الناقد، قال: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن مجالد، عن الشعبي، قال: «كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن».

قلت: هذا الأثر فيه علتان:

الأولى: الاضطراب في لفظه، ولفظه الصحيح هو ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (10953) حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَتِ الأَنْصَارُ يَقْرَؤُونَ عِنْدَ الْمَيِّتِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ).

فليس فيه أنهم كانوا يختلفون إلى قبر الميت يقرءون عنده القرآن. بل الذي حكاه الشعبي أنهم كانوا يقرؤون عند الميت، أي: المحتضر، كما في حديث (اقرؤوا على موتاكم يس).

العلة الثانية: أن هذا الأمر لو كان مشهورًا في الأنصار لعرفه مالك بن أنس، وهو الخبير بعمل أهل المدينة. فقد ذهب مالك رحمه الله إلى كراهة قراءة القرآن على الميت، لأنه ليس من عمل أهل المدينة. انظر: الفواكه الدواني (1/284)، شرح مختصر خليل (2/137).

ﻭﻗﺎﻝ اﻟﺪﺭﺩﻳﺮ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺸﺮﺡ اﻟﺼﻐﻴﺮ (1/180) وهو يحكي مذهب الأنصار وأهل المدينة: (ﻭﻛﺮﻩ ﻗﺮاءﺓ ﺷﻲء ﻣﻦ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻋﻨﺪ اﻟﻤﻮﺕ ﻭﺑﻌﺪﻩ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﺒﻮﺭ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻟﺴﻠﻒ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﻢ اﻟﺪﻋﺎء ﺑﺎﻟﻤﻐﻔﺮﺓ ﻭاﻟﺮﺣﻤﺔ ﻭاﻻﺗﻌﺎﻅ).

فهذا الأثر إن صح عن الشعبي، فيحمل على القراءة على المحتضر، أو القراءة على الميت الذي مات لتوه، وعليه أيضًا يحمل أثر عبدالله بن عمر إن صح عنه في قراءة سورة البقرة.

والأثر فيه مجالد بن سعيد، وسفيان بن وكيع، وقد تكلم العلماء فيهما من جهة حفظهما. وإن كان مجالد في الحديث ضعيفًا، غير أنه يُحتج به فيما يرويه عن الشعبي، فليست هذه علة الأثر، وإنما علته في اضطرابه.

ثم قال الخلال (8): أخبرني إبراهيم بن هاشم البغوي، قال: حدثنا عبد الله بن سنان المروزي أبو محمد، قال: حدثنا الفضل بن موسى السيناني، عن شريك، عن منصور، عن إبراهيم، قال: «لا بأس بقراءة القرآن في المقابر».

فالأثر فيه شريك بن عبدالله وهو ضعيف، سيء الحفظ، مضطرب الحديث، وقد توقف بعض الأئمة في الاحتجاج بمفاريده.

وعلى فرض صحته، فهو محمول على القراءة على الميت الذي دفن لتوه، وإن كان يقصد الصورة التي يفعلها الناس اليوم من القراءة على من مات منذ زمن، فلا دليل على ذلك من كتاب أو سنة، خاصة مع وجود الداعي لها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال الخلال (9): أخبرني أبو يحيى الناقد، قال: سمعت الحسن بن الحر، وهو يقول: «مررت على قبر أخت لي، فقرأت عندها تبارك لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى الله أبا علي خيرا، فقد انتفعت بما قرأ».

قلت: من المعلوم أن الأحكام الشرعية- وخاصة في المسائل التي يجتهد أهل البدع في إظهارها- لا تؤخذ من الرؤى والمنامات. فهذا دين لابد فيه من نص صريح.

ثم إن الحديث الوارد في فضل قراءة تبارك إنما هو في حال الحياة قبل النوم، حتى ينتفع بها صاحبه بعد موته، وليس في فضل قراءتها في المقابر، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر في ذات الحديث بقراءتها في المقابر.

روى الطبراني في المعجم الكبير (8650) عن عبدالله بن مسعود قال: "مات رجل فجاءته ملائكة العذاب، فجلسوا عند رأسه، فقال: لا سبيل لكم إليه قد كان يقرأ سورة الملك، فجلسوا عند رجليه، فقال: لا سبيل لكم إليه قد كان يقوم علينا بسورة الملك، فجلسوا عند بطنه، فقال: لا سبيل لكم إنّه قد وعى في سورة الملك، فسُمّيت المانعة". أخرجه عبدالرزاق في المصنف (6024)، وإسناده جيد.

وروى أحمد والترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان لا ينام حتى يقرأ (ألم تنزيل) السجدة، وتبارك الذي بيده الملك.

ثم قال الخلال (10): أخبرني الحسن بن الهيثم، قال: «كان خطاب يجيئني ويده معقودة فيقول: إذا وردت المقابر فاقرأ قل هو الله أحد، واجعل ثوابها لأهل المقابر».

11 - أخبرني الحسن بن الهيثم، قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نصر التمار، يقول: «كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة، فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعلها في أهل هذه المقابر، فلما كان في الجمعة التي تليها، جاءت امرأة فقالت: أنت فلان بن فلانة ؟ قال: نعم، قالت: إن بنتا لي ماتت، فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها، فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس، وجعل ثوابها لأهل المقابر، فأصابنا من روح ذلك، أو غفر لنا أو نحو ذلك».

قلت: لا دليل على إهداء ثواب القراءة من الكتاب أو السنة أو الأثر، فضلاً عن وجود أناس في السند لم يُترجم لهم ولا نعرف حالهم.

وأمرٌ كهذا لا دليل عليه، فلا يجوز التوسع فيه، لكيلا لا يُفتح باب ضلالة أمام العامة، فيرتكبوا ما هو أشد من مجرد القراءة على القبور، وقد رأينا هذا الأمر بأعيننا.

لاسيما والأصل في العبادات التوقيف إلا ما ثبت بدليل.

وأما ما قاله المروذي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرءوا آية الكرسي وثلاث مرات (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم قولوا: اللهم إن فضله لأهل المقابر.

الطبقات (2/ 224)، الفروع (2/ 308)، معونة أولي النهى (3/ 145).

وفي رواية محمد بن يحيى الكحال قال: قيل لأبي عبد اللَّه الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟

قال: أرجو، أو قال: الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها، وقال أيضًا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وقل: اللهم إن فضله لأهل المقابر. الروح (ص190)، الفروع (2/ 308).

قلت: من عرف سيرة أحمد وحرصه على الاتباع وشدة نهيه عن الابتداع، يستنكر هذه الآثار، فلم يبلغنا أن أحدًا من السلف والصحابة والتابعين وتابعيهم كان يفعل ذلك.

أيعقل أن يقول أحمد: (إذا دخلتم المقابر فاقرءوا آية الكرسي وثلاث مرات (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم قولوا: اللهم إن فضله لأهل المقابر). وهو صاحب الأثر، فأين الأثر في ذلك عن السلف؟!

أو يعقل أن يقول أحمد: (الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها- حتى الصلاة. وقال أيضًا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وقل: اللهم إن فضله لأهل المقابر).

قال الخلال: أخبرني حرب، قال: قلت لأحمد: الابن يصلي عن أبيه، وهو ميت؟ قال: ما بلغنا أن أحدًا صلى عن أحد. قيل: فإن كان عليه نذر يقضيه عنه؟ قال: نعم.

أخبرني عبد الله بن محمد: حَدَّثنَا بكر بن محمد، أن أبا عبد اللَّه قال: لا تُقضى عن الميت الصلاة.

أخبرني عبد اللَّه بن محمد: أنه سأل أبا عبد اللَّه: عن رجل كانت عليه صلاة فرط فيها، كانت عليه قبل مرضه الذي مات فيه، يُصلى عنه؟ قال: لا، لا يصلي أحد عن أحدٍ.

أخبرني منصور بن الوليد: أن جعفر بن محمد حدثهم قال: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: لا يصلي أحد عن أحد.

أخبرني موسى بن سهل: حَدَّثَنَا محمد بن أحمد الأسدي: حَدَّثَنَا إبراهيم بن يعقوب، عن إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد: هل يُصلى عن الميت؟ قال: لا يصلى عنه. قلت له: إنه يحج عنه، ويصلى عنه الطواف؟ قال: ذاك من عمل الحج.

أخبرني محمد بن علي: حَدَّثَنَا مهنا قال: سئل أبو عبدالله: عن الرجل يصلي عن أبيه، وقد مات، أو يصلي الرجل عن الرجل وقد مات؟ قال: ما سمعت في هذا بشيء، أن يصلي الرجل عن الرجل. وقال: لا يعجبني أن يصلي أحد عن أحد. "الوقوف" للخلال (231 - 235).

فمدار الباب على التوقف، وعدم التوسع فيه، لئلا نفتح على العامة باب ضلالة ليس عليه دليل صحيح صريح. وإنما مداره على آثار ضعيفة أو شاذة أو رؤى ومنامات.

فهذا الباب لم يرد فيه شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

author-img

أبو رزان محمد بن عبدالحليم

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة