JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

recent
مياومة
الصفحة الرئيسية

كتاب الاعتكاف: فضله، وحال السلف فيه!

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد:

فقد روى محمد بن نصر المروزي عن أبي عثمان قال: كانوا يعظمون ثلاث عشرات؛ العشر الأول من المحرم , والعشر الأول من ذي الحجة , والعشر الأواخر من رمضان.

وما ذاك إلا لاجتماع العبادات العظيمة في هذه الليالي، وإنما يشرف الزمان والمكان بشرف ما فيه من العبادات والطاعات.

وقد عظمت العشر الأواخر من رمضان لأن فيها ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها تنزل الملائكة بإذن ربها من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر، وعظمت كذلك لأن فيها عبادة هي من أجلِّ العبادات، ألا وهي عبادة الاعتكاف، والخلو بالرب تبارك وتعالى والاطراح بين يديه. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه العشر وهو معتكف ما لا يجتهد في غيرها.

والاعتكاف: هو خلوة الموحدين، وهو سنة الحنفاء الأولين، فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة عن الناس- كالجبال والكهوف- وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورة ماسة. يتحنثون فيها ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق- والتحنث التعبد- فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتحنث الليالي ذوات العدد في غار حراء.

وقد أبدلنا الله بها الاعتكاف في المساجد بيوت الله في الأرض.

قال الزهري رحمه الله: عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله.

وفي لفظ قال: (عجبًا من الناس، كيف تركوا الاعتكاف؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض.

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: إن مثل المعتكف مثل المحرم ألقى نفسه بين يدي الرحمن فقال: والله لا أبرح حتى ترحمني.

وفي لفظ قال: مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه، ويقول: لا أبرح حتى تقضي حاجتي، والمعتكف يجلس في بيت الله تعالى ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي، فهو أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص.

ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبه ويعظمه؛ كما كان المشركون يعكفون على أصنامهم وتماثيلهم, ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم؛ شرع الله سبحانه لأهل الإيمان أن يعكفوا على ما يرضي ربهم سبحانه وتعالى.

وقول الله تعالى في شأن المشركين: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِين . إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُون. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِين).

وقوله تعالى: (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُون . قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين).

فذكروا أعلى صورة من صور العبادة عندهم ألا وهي العكوف على خدمة الأصنام. وقولهم: (فَنَظَلُّ لَهَا)، أبلغ في الوصف والعبادة من قولهم: (عندها).

وقول موسى عليه السلام للسامري: (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا).

وقوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ).

وقول الله تعالى في شأن الموحدين الذي عكفوا لربهم: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود).

فأمر الله عز وجل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بهذا التطهير لأجل هؤلاء، وقرن الاعتكاف بالطواف والصلاة، وفي هذا دليل على فضل الاعتكاف.

وقول الله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون).

وقول الله تعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون . وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون).

وقوله تعالى: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ).

وروى ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: (العاكفين). قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده.

قال ابن جرير في تفسيره: (يعني تعالى ذكره بقوله: (والعاكفين): المقيمين به. والعاكف على الشيء هو المقيم عليه. وإنما قيل للمعتكف: معتكف؛ من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى).

وعن ثابت، قال: قلت لعبدالله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن يمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون؟ قال: لا تفعل؛ فإن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عنهم فقال: هم العاكفون.

والاعتكاف هو العبادة؛ روى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى عن المشركين: (قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين). قال: عابدين.

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن زياد بن السكن قال: كان زبيد اليامي- وعدَّ جماعة- إذا كان يوم النيروز ويوم المهرجان- وهي أعياد المجوس- اعتكفوا في مساجدهم، ثم قالوا: اللهم إن هؤلاء قد اعتكفوا على كفرهم، واعتكفنا على إيماننا؛ فاغفر لنا).

وروى أبو نعيم في حلية الأولياء (6/41) عن كعب في سؤالات موسى عليه السلام لربه قال: إلهي! ما جزاء من اعتكف لك؟ قال: المغفرة. قال: فسكت موسى عليه السلام طويلًا فلم يتكلم. فقال له ربه تعالى: يا موسى! تكلم ما في قلبك، قال: إلهي! أنت أعلم بما أقول، قال: نعم، قد علمت أنك أردت أن تقول: إلهي! لا يهلك عليك إلا هالك، قال: نعم، قال: يا موسى بن عمران! وعزتي لا يهلك عليَّ إلا هالك.

والاعتكاف هو: الخلوة المشروعة لهذه الأمة، وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق والتفرغ لخدمة الخالق. وهو عكوف القلب على الله تعالى والانقطاع عن أمور الدنيا، فيجمع بذلك بين الانقطاع عن الناس والانقطاع عن شهواته حتى يحصل بعد ذلك على تزكية نفسه وتطهيرها من الذنوب والآثام. فيصير أنسه بالله بدلًا عن أنسه بالخلق، ليجعله ذخرًا لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، وعند ورود المنهل يغبط الركب الدُّلجة؛ فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر.

وفي حديث لأنس رضي الله عنه قال: وطوى فراشه واعتزل النساء.

والاعتكاف هو حفظ الجوارح تحت الأوامر. وهو الخلوة الشرعية بالرب تبارك وتعالى. فالمعتكف قد خلا بربه وحبس نفسه على عبادة الله وذكره، وقطع نفسه عن كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له همٌّ سوى مولاه وما يرضيه عنه، كما كان داود الطائي يقول في ليله: همك عطَّل عليَّ الهموم وخالف بيني وبين السهاد- يعني: الأرق- وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب.

والاعتكاف: تدبرٌ وتلاوة، وتوبةٌ وإنابة، ينصرف الناس إلى بيوتهم بعد صلاتهم، يخلو كل واحد بزوجه، ويخلو المعتكف بربه عز وجل.

وهو من أفضل العبادات وأجلها لأمور منها:

أن الاعتكاف يكون في العشر الأواخر من رمضان وفيها ليلة هي خير من ألف شهر، أي خير من ثلاث وثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد تحصيلاً لتلك الليلة ألا تفوت، بل اعتكف العشر الأول ثم الأوسط، ثم قال: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف.

ولما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا- كما رواه البخاري- بل لما ترك مرةً اعتكاف العشر الأخير بسبب سفره؛ قضاه في شوال فاعتكف العشر الأول منه، طلبًا لإدراكه فضله، وهذا كاف لبيان فضل الاعتكاف.

قال ابن المنذر: ويستحب أن لا يدع أحد الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه وقضاه لما فاته, وكل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من السنن المؤكدة؛ كقيام الليل ونحوه.



ومن ذلك: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن معه في حياته ثم اعتكفن بعد موته، حتى إن عائشة رضي الله عنها لتقول: اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه وهي مستحاضة، فكانت ترى الدم والصفرة، وربما وضعت الطست تحتها من الدم، وهي تصلي.

وهذا دليل على فضله، وحرص أمهات المؤمنين عليه رغم ما بهن من دم وصفرة.

ومنها: أن الاعتكاف مخالف لشهوة النفس والهوى، وكلما عظمت الشهوة وقوي داعي الهوى؛ عظم الأجر بالمخالفة، وفي بعض الآثار: أيها الشاب التارك لشهوته، المتبذل شبابه من أجلي: أنت عندي كبعض ملائكتي.

بل كلما عظمت العبادة وعظم الزمن؛ عظم الأجر، والاعتكاف عبادة جليلة في زمن جليل، فهو لله وهو يجزي به. وهذا في الصوم، فكيف إذا اجتمع الصوم مع الاعتكاف؟

بل كلما عظمت العبادة وكثر ترك الناس لها؛ كانت أعظم في الأجر وأوقع في النفس؛ كالسنة المهجورة إذا عُمل بها؛ كما جاء في حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: اعلم. قال: وما أعلم يا رسول الله؟ قال: إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا.

ومثل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخر العشاء إلى ثلث الليل. قال للصحابة: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم.

قال ابن رجب : وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.

والاعتكاف من السنن القليلة التي قلَّ من حافظ عليه من أهل الأرض.

ومنها: أن المعتكف- إن شاء الله- من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فهو واحد- ولابد- من هؤلاء الثلاثة: شاب نشأ في عبادة ربه عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله.

والجامع لهؤلاء الثلاثة: الصبر على فعل المأمور وترك المحظور وحبس النفس على العبادة ومخالفة الهوى، وكله يحصل في الاعتكاف.

بل إن الاعتكاف صورة عظمى من صور الرباط في سبيل الله، المتمثل في انتظار الصلاة بعد الصلاة.

ومن فضل الاعتكاف أن من لم يستطع الاعتكاف كاملًا فلا أقل من أن يعتكف ليلة أو ليلتين؛ فقد روى أحمد في مسنده أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! إني شيخ كبير عليل، يشق علي القيام، فأمرني بليلة لعلَّ الله يوفقني فيها لليلة القدر، قال: عليك بالسابعة.

وروى أبو داود في سننه عن عبدالله بن أنيس رضي الله عنه قال: يا رسول الله! إن لي بادية أكون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال: انزل ليلة ثلاث وعشرين.

ومنها: أن الرجل لو نذر وهو مشرك أن يعتكف، ثم أسلم فإنه يجب عليه وفاؤه، كما ورد عن عمر رضي الله عنه.

بل من مات وعليه اعتكاف اعتكف عنه وليه.

روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ليث، قال: سئل طاووس عن امرأة ماتت وعليها أن تعتكف سنة في المسجد الحرام، ولها أربعة بنون، كلهم يحب أن يقضي عنها؟ قال طاووس: اعتكفوا أربعتكم في المسجد الحرام ثلاثة أشهر، وصوموا.

وعن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة؛ أن أمه نذرت أن تعتكف عشرة أيام ، فماتت ولم تعتكف، فقال ابن عباس: اعتكف عن أمك.

وعن عامر بن مصعب؛ أن عائشة رضي الله عنها اعتكفت عن أخيها بعد ما مات.

وروح الاعتكاف هو الخلوة بالله وقطع التعلق بالدنيا والتزود ليوم المعاد، فهذه حدوده ومحارمه، وبعد ما بين الله سبحانه وتعالى حدود الاعتكاف وأحكامه، قال سبحانه : (تلك حدود الله فلا تقربوها). فاهتم الناس بالأحكام وتركوا الحدود. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في قبة، ويجعل على سدتها حصيرًا، وكان يضرب على نفسه الخباء.

قال ابن القيم: (كل هذا تحصيلًا لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون). اهـ

والمعتكف الحقيقي هو من صدق فيه قول القائل:

فتية يعرف التخشع فيهم ... كلهم أحكم القرآن غلاما

قد برى جلده التهجد حتى ... عاد جلدًا مصفرًا وعظاما

تتجافى عن الفراش من الخوف ... إذا الجاهلون باتوا نياما

بأنين وعبرة ونحيب ... ويظلون بالنهار صياما

يقرؤون القرآن لا ريب فيه ... ويبيتون سجدًا وقياما

والعبد إذا لم يجتهد في رمضان طلبا للأجر والتماسا ليلة القدر، فمتى يجتهد؟!

عن وهب قال: ما أحدثت لرمضان شيئًا قط يعني أنه ما زاد في عمله.

وعن أبي عوانة قال: لو قيل لمنصور بن زاذان: إنك تموت غدًا أو بعد غد ما كان عنده مزيد.

وهكذا المعتكف ينبغي له أن يجتهد في اعتكافه كلَّ الاجتهاد، فلربما لا تتوفر له الفرصة مرة أخرى.

روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى، ثم قرأ (إنا أنزلناه في ليلة مباركة، إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم)، يعني ليلة القدر ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل.


والآن مع آثار السلف في اعتكافهم، وطول قيامهم لله، وكثرة قراءتهم للقرآن وهي من أجل العبادات في الاعتكاف.

روى ابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل عن المغيرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن غالب الحداني- لما برز العدو-: على ما آسى من الدنيا؟ فوالله ما فيها للبيب جزل، والله لولا محبتي بمباشرة السهر بصفحة وجهي وافتراش الجبهة لك يا سيدي والمراوحة بين الأعضاء والكراديس في ظلم الليالي رجاء ثوابك وحلول رضوانك، لقد كنت متمنيًا لفراق الدنيا وأهلها. قال: ثم كسر جفن سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل فحمل من المعركة وإن به لرمقًا فمات دون العسكر، قال: فلما دُفن أصابوا من قبره رائحة المسك. قال: فرآه رجل من إخوانه فيما يرى النائم، فقال: يا أبا فراس! ما صنعت؟ قال: خير الصنيع. قال: إلام صرت؟ قال: إلى الجنة. قال: بم؟ قال: بحسن اليقين وطول التهجد وظمأ الهواجر. قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟ قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ. قال: قلت: أوصني. قال: بكل خير وصيتك. قلت: أوصني. قال: اكسب لنفسك خيرًا؛ لا تخرج عنك الليالي والأيام عطلًا، فإني رأيت الأبرار نالوا البر بالبر.

قلت: وهذا مصداق لقوله تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ).

وعن بشر بن مصلح العتكي قال: حدثني إبراهيم بن خالد بن ميناس- وكان والله ممن يخاف الله عندنا سرًا وعلانية- قال: حدثني صاحب لنا من الصوريين قال: مُثِّلت لي القيامة في منامي، فجعلت أنظر إلى قوم من إخواني قد نضرت وجوههم وأشرقت ألوانهم وعليهم الحلل دون ذلك الجمع، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة ووجوههم مشرقة نضرة والناس غبر كما نشروا من القبور؟! قال: فقال لي قائل: أما الذي رأيت من الكسوة، فإن أول ما يكسى من الخلائق بعد النبيين: المؤذنون وأهل القرآن. وأما ما رأيت من إشراق الوجوه، فذلك ثواب السهر والتهجد مع عظيم ما يدخر لهم في الجنة. قال: ورأيت قومًا على نجائب، فقلت: ما بال هؤلاء ركبان والناس حفاة مشاة؟ قال: فقيل لي: هؤلاء الذين قاموا لله على أقدامهم تقربًا إليه؛ أثابهم بذلك خير الثواب؛ مراكبًا لا تروث ولا تبول، وأزواجًا لا يمتن ولا يهرمن. قال: فصحت والله في منامي: واهًا للعابدين! ما أشرف اليوم مقامهم. قال: واستيقظت والله وأنا وجل القلب مما كنت فيه.

وعن الأوزاعي قال: سمعت ثابت بن معبد يقول: ثلاث أعين لا يسهرن في جهنم أبدًا: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين سهرت بكتاب الله.

وللمعتكف أوفر الحظ من قوله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيشفعان).

وعن محارب بن دثار عن عمه قال: مررت بابن مسعود رضي الله عنه بسحر وهو يقول: اللهم دعوتني فأجبتك، وأمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي؛ فلما أصبحت غدوت عليه، فقلت له: فقال: إن يعقوب لما قال لبنيه (سوف استغفر لكم)؛ أخرهم إلى السَّحر.

وفي هذا الحرص على قراءة القرآن والدعاء في السَّحر لمن رزقه الله اعتكافًا.

وعن عبدالله بن الزبير، حدثنا سفيان قال: بلغنا أنه إذا كان أول الليل نادى مناد: ألا ليقم العابدون؛ قال: فيقومون فيصلون ما شاء الله، ثم ينادي ذلك أو غيره في شطر الليل: ألا ليقم القانتون؛ قال: فيقومون، قال: فهم كذلك يصلون إلى السَّحر، فإذا كان السَّحر نادى مناد: أين المستغفرون، قال: فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون يسبحون، قال: يعني يصلون. قال: فيلحقونهم، قال: فإذا طلع الفجر وأسفر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون؛ قال: فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم.

قال سفيان: فتراه كسلان ضجرًا؛ قد بات ليله جيفة على فراشه، وأصبح نهاره يخطب على نفسه لعبًا ولهوًا.

قال: وترى صاحب الليل منكسر الطرف فرح القلب.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون.

قال محمد بن كعب: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه يشير إلى سهره وطول تهجده.

وهكذا والله ينبغي أن يكون المعتكف.

ورى ابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل عن عطاء الخراساني قال: كان يقال: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في البصر، وقوة في الجوارح. وإن الرجل إذا قام من الليل متهجدًا أصبح فرحًا يجد لذلك فرحًا في قلبه، وإذا غلبته عيناه فنام عن جزئه أصبح لذلك حزينًا منكسر القلب؛ كأنه قد فقد شيئًا، وقد فقد أعظم الأمور له نفعًا.

وهكذا والله المعتكف، يجد في اعتكافه محياةً للبدن، ونورًا في القلب، وضياءً في البصر، وقوةً في الجوارح، ومن جَرَّب عَرف.

وعن وهب بن منبه قال: قيام الليل يَشرف به الوضيع ويُعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون دخول الجنة.

وعن يزيد الرقاشي قال: بطول التهجد تقر عيون العابدين، وبطول الظمأ تفرح قلوبهم عند لقاء الله عز وجل.

فإذا كان الصائم له فرحتان، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، فكيف بالصائم المعتكف الذي انقطع لربه، ليس له همٌّ سوى رضاه عنه.

وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربِّ أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، ربِّ اجعلني شاكرًا لك، ذاكرًا لك، مطواعًا إليك، راغبًا إليك، مخبتًا لك، أواها منيبًا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي.

وعن عمر رضي الله عنه إذا قام من الليل قال: اللهم قد ترى مكاني، وتعلم حاجتي فأرجعني الليلة من عندك مفلحًا منجحًا مستجيبًا مستجابًا لي، قد رحمتني وغفرت لي. فإذا قضى صلاته قال: اللهم إني لا أرى شيئًا من أمر الدنيا يدوم، ولا أرى حالًا فيها يستقيم، فاجعلني أنطق فيها بعلم، وأصمت فيها بحلم، اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى، ولا تُقل لي منها فأنسى، فإنه ما قَلَّ وكفى خير مما كثر وألهى.

وعن عنبسة بن الأزهر قال: كان محارب بن دثار- قاضي أهل الكوفة قريب الجوار مني- فربما سمعته في بعض الليل يقول ويرفع صوته يقول: أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد. وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد، وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي أديته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، ربنا ولك الحمد، ربنا حمدًا على حمد.

وعن جعفر قال: سمعت مالكًا يقول: لو استطعت ألا أنام لم أنم؛ مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم.

وعن مالك قال: قالت بنت الربيع بن خثيم لأبيها: يا أبتاه! مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟! قال: إن أباك يخاف البيات.

وعن أسلم بن عبدالملك- وكان شيئًا عجبًا- قال: صحب رجل رجلًا شهرين فلم يره نائمًا ليلًا ولا نهارًا، فقال: مالي لا أراك تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في غيرها.

وهكذا المعتكف ينبغي له أن يجعل لنفسه ساعة يتدبر فيها آيات القرآن ورسائل ربه له، وأن يقلل من ساعات نومه وراحته، فإذ لم يفعل هذا وهو منقطع عن الناس فمتى إذًا؟! فلابد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه، في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره. والاعتكاف خير معين للرجل على ذلك، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته- أو مسجده- يكف فيها بصره ولسانه.

وعن جعفر بن سليمان حدثنا أبو غالب قال: صحبنا شيخٌ في بعض المغازي وكان يحيي الليل حيث كان على ظهر دابته أو على الأرض، وكان إذا نظر إلى الفجر قد سطع ضوؤه نادى: يا إخوتاه! عند بلوغ الماء يفرح الواردون بتعجيل الرواح، هنالك تنقطع كل همة.

وعن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة نازلًا عندنا بالحصيب، وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلًا طويلاً، فإذا كان السَّحر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرسون! كل هذا الليل ترقدون، ألا تقوموا فترحلون، قال: فيتواثبون فتسمع من ههنا باكيًا، ومن ههنا داعيًا، ومن ههنا قارئًا، ومن هاهنا متوضئًا، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.

وهكذا من اقترب من مسجدٍ فيه اعتكاف سمع من ههنا باكيًا، ومن ههنا داعيًا، ومن ههنا قارئًا، ومن هاهنا متوضئًا. فهنيئًا لهم.

وعن أبي إسحاق قال: حج مسروق فما بات إلا ساجدًا.

لم يشغله عناء السفر ومشقة الحج- وهو نوع من الجهاد- عن خدمة ربه والسجود له والقيام بين يديه، وإلى الله نشكو حالنا وضعفنا.

وعن الحميدي عن سفيان قال: كانوا يقولون في ذلك الزمان: إن أطول أهل الكوفة تهجدًا: طلحة وزبيد وعبدالجبار بن وائل. قال الحميدي: فقلت: فمنصور؟ قال: نعم، إنما كان الليل عنده مطية من المطايا متى شئت أصبته قد ارتحله.

فاللهم اجعل الليل مطية لنا نرتحله متى شئنا في سفرنا إليك.

وعن أبي كثير البصري قال: قالت أم محمد بن كعب القرظي لمحمد: يا بني! لولا أني أعرفك صغيرًا طيبًا، وكبيرًا طيبًا؛ لظننت أنك قد عملت ذنبًا موبقًا، لما أراك تصنع بنفسك بالليل والنهار؛ قال: يا أمتاه! وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع عليَّ وأنا في بعض ذنوبي فمقتني، وقال: اذهب فلا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن ترد بي على أمور حتى إنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي.

وعن سفيان قال: كان قيس بن مسلم يصلي حتى السَّحر، ثم يجلس فيهيج البكاء ساعة بعد ساعة، ويقول: لأمرٍ ما خُلقنا، لأمرٍ ما خُلقنا، لئن لم نأت الآخرة بخير؛ لنهلكن.

وهاتان ساعتان لابد للمعتكف منهما: ساعة بكاء وندم، وساعة تدبر وتفكر، أين مصيره غدًا بين يدي الله تعالى؟

وقالت امرأة حسان بن أبي سنان: كان يجيء حسان بن أبي سنان فيدخل معي في فراشي، قالت: ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني قد نمتُ سلَّ نفسه فخرج، ثم يقوم فيصلي، فقلت له: يا أبا عبدالله! كم تعذب نفسك! ارفق بنفسك، فقال لي: اسكتي ويحك! فأوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها.

وعن محمد بن عبدالعزيز بن سلمان، قال: حدثتني أمي، قالت: قال أبوك: ما للعابدين وما للنوم! لا نوم والله في دار الدنيا إلا نومٌ غالبٌ، قالت: فكان والله كذلك، ما له فراش، وما يكاد ينام إلا مغلوبًا.

وعن حصين بن القاسم الوزان، قال: لو قُسِّمَ بَثُ عبدالواحد بن زيد على أهل البصرة لوسعهم، فإذا أقبل سواد الليل نظرت إليه، كأنه فرس رهان مضمر متحزم، ثم يقوم إلى محرابه، وكأنه رجل يخاطب.

فأين المعتكفون من هذا؟

وعن الحجاج الصواف قال: قيل لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: بحسب الرجل من الخيبة- أو قال: من الشر- أن يبيت ليلته لا يذكر الله حتى يصبح، فيصبح وقد بال الشيطان في أذنه.

وعن الحسن قال: إن العبد ليذنب الذنب؛ فيُحرم به قيام الليل.

وعن زائدة قال: صام منصور بن المعتمر سنة، صام نهارها وقام ليلها، وكان يبكي الليل فإذا أصبح ادهن واكتحل وبرق شفته، فتقول له أمه: ما شأنك! أقتلت نفسًا؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت نفسي.

وعن جرير قال: بلغ منصور بن المعتمر قول عبدالله بن مسعود: (من يقم الحول يصب ليلة القدر). قال: فقام سنة يصوم النهار ويقوم الليل؛ حتى بلي فصار مثل الجرادة.

وعن عبد النور السليطي قال: تعبد رجل من بني تميم، فكان يحيي الليل صلاة، فقالت له أمه: يا بني! لو نمت من الليل شيئًا، فقال: ما شئت يا أمة، إن شئت نمت اليوم، ولم أنم غدًا في الآخرة، وإن شئت لم أنم اليوم لعلي أدرك غدًا في الآخرة مع المستريحين من عسر الحساب.

قالت: يا بني! والله ما أريد لك إلا الراحة، فراحة الآخرة أحب إليَّ لك من راحة الدنيا، فدونك يا بني! فحالف السهر أيام الحياة؛ لعلك تنجو من عسر ذلك اليوم وما أراك ناجيًا.

وروى ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء عن خشيش أبى محرز قال: قال: أبو عمران الجوني: هبك تنجو، بعد كم تنجو؟

أي: من النار.

وعن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا نغازي مع عطاء الخراساني، قال: فكان يحيي الليل صلاة، فإذا ذهب من الليل ثلثه أو نصفه نادى وهو في فسطاطه: يا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، ويا هشام بن الغاز، ويا فلان ويا فلان، قوموا فتوضؤوا وصلوا، فلقيام هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر من مقطعات الحديد، وشراب الصديد، الوحاء الوحاء! ثم يقبل على صلاته.

قلت: يقال في الاستعجال: الوَحاءَ الوَحاءَ. أي: البدَارَ البِدَارَ. انظر: المعجم الوسيط

وقال محمد بن الحسين: حدثني يحيى بن أبي بكير، حدثنا شعبة عن هشام بن حسان قال: صليت ذات ليلة إلى جنب منصور بن زاذان بواسط فيما بين المغرب والعشاء فقرأ القرآن، وبلغ في الثانية إلى النحل.

قال محمد: فحدثت بهذا الحديث عبدالعزيز بن أبان، فقال: عندنا بالكوفة في بني البكاء فتيان يصلون المغرب ثم يدخلون فيتعشون، ثم يخرجون فيختمون القرآن قبل صلاة العشاء.

وعن معاوية بن إسحاق قال: لقيت سعيد بن جبير عند الميضأة بمكة، فرأيته ثقيل اللسان، فقلت له: مالي أراك ثقيل اللسان؟! قال: قرأت القرآن البارحة مرتين ونصف.

وفي هذا شحذٌ لهمم المعتكفين.

وعن الحارث بن يزيد أن سليم بن عتر كان يقرأ القرآن كلَّ ليلةٍ ثلاثَ مرات.

وعن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في كل ليلتين من رمضان، وكان ينام ما بين المغرب والعشاء.

وعن الصعب بن عثمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: ما أتت عليَّ ليلتان إلا وأنا أختم فيها القرآن.

وعن ابن شوذب قال: كان عروة بن الزبير يقرأ ربع القرآن في المصحف ناظرًا ويقوم به الليل.

قال: فما ترك ذلك إلا ليلة نشر رجله، ثم عاود جزأه من الليل المستقبلة.

وعن محمد بن مسعر قال: كان أبي لا ينام؛ يقرأ حتى نصف القرآن، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع عليه هجعة خفيفة، ثم يثب كالرجل الذي قد ضلَّ منه شيء فهو يطلبه، فإنما هو السواك والطهور، ثم يستقبل المحراب فكذلك إلى الفجر، وكان يجهد على إخفاء ذلك جدًا.

وعن مالك بن مغول قال: قيام الليل أيسر من خوض النيران ومن شرب الحميم.

وروى ابن أبي الدنيا عن بعص أصحابه قال: كان رجل من أهل خراسان متعبدًا، وكان إذا جاء الليل تحزم ولبس ثيابه وخفيه، فيقول له أهله: الناس إذا أصبحوا لبسوا ثيابهم وذهبوا إلى أسواقهم، وأنت إنما تلبس بالليل! فيقول لهم: وأنا أيضًا أذهب إلى السوق، قال: فيقوم إلى محرابه.

والاعتكاف سوق الآخرة، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر.

وعن عمارة عن شريح بن هاني قال: ما فقد رجل شيئًا أهون من نعسة تركها. قال: فما ذكرتها من قوله إلا نفعني الله بها.

وعن أبي أراكة قال: صليت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر، فلما سلم انفتل عن يمينه ثم مكث كأن عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح- قال: وحائط المسجد أقصر مما هو الآن- قال: ثم قلَّب يده، وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفرًا غبرًا بين أعينهم أمثال ركب المعز، قد باتوا سجدًا وقيامًا يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذُكر الله مادوا كما تميد الشجر في يوم ريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين، ثم نهض، فما رئي يضحك حتى ضربه ابن ملجم عدو الله الفاسق.

وعن مسعر قال: لما قيل لهم: (اعملوا آل داود شكرا) لم يأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصلي.

وعن مجاهد قال: لما قيل لها: (يا مريم اقنتي لربك). قال: قامت حتى تورمت كعباها.

وعن الحسن البصري وسأله رجل: أي القيام أفضل؟ قال: جوف الليل الغابر، إذا نام من قام من أوله، ولم يقم بعد من يتهجد في آخره، فعند ذلك نزول الرحمة وحلول المغفرة.

قال حكيم: فحدثت بذلك مِسمعَ بن عاصم فبكى، ثم قال: إلهي! في كل سبيل يبتغي المؤمن رضوانك.

وهكذا المعتكف ينبغي له أن يبتغي في كل سبيل رضوان ربه عليه من صلاة ودعاء وذكر وفكر وتدبر وقراءة قرآن

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: يعجب الله من خصلتين يعملهما العباد: رجل قام من الليل فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، قال: فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا! قام من بين أهل داره رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي! ورجل يلقى العدو في الزحف ففرَّ أصحابه وأقام، فيقول الله: انظروا إلى عبدي فرَّ أصحابه وأقام رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي.

وعن مضر القارئ قال: كان رجل من العُبَّاد قلما ينام من الليل، قال: فغلبته عينه ذات ليلة فنام عن جزئه، قال: فرأى فيما يرى النائم كأن جارية وقفت عليه، كان وجهها القمر المستتم، قال: ومعها رق فيه كتاب، فقالت: أتقرأ أيها الشيخ؟ قال: نعم، قالت: فاقرأ لي هذا الكتاب، قال فأخذته من يدها ففتحته فإذا فيه مكتوب:

أألهتك لذة نوم عن خير عيش ... مع الخيرات في غرف الجنان

تعيش مخلدًا لا موت فيها ... وتنعم في الخيام مع الحسان

تيقظ من منامك إنَّ خيرًا ... من النوم التهجدُ بالقرآن

قال: فوالله ما ذكرتها قط إلا ذهب عني النوم.

وعن صالح المري قال: حدثني زياد النميري منذ زمن طويل قال: أتاني آت في منامي فقال: قم يا زياد إلى عادتك من التهجد وحظك من قيام الليل، فوالله هو خير لك من نومة توهن بدنك وينكسر لها قلبك، قال: فاستيقظت فزعًا، قال: ثم غلبني والله أيضًا النوم، فأتاني ذاك أو غيره، فقال: قم يا زياد! فلا خير في الدنيا إلا للعابدين. قال: فوثبت فزعًا.

وعن فروة الزاهد قال: حدثني رجل من أهل الأردن، قال: كنا مرابطين بالصيرفية، وكنا لا نكاد أن ننام عامة الليل نتحارس فيها بالتكبير والتهليل، قال: ثم ينام من ينام، ويقوم المتهجدون إلى صلاتهم، فنمت ذات ليلة في آخر الليل، فإذا أنا بقومٍ قد هبطوا على أهل المسجد ومعهم حُلل، فهم يقفون على كل مصلي فيلبسونه حُلَّة من حللهم، فإذا انتهوا إلى نائم جاوزوه إلى غيره، حتى انتهوا إليَّ فقلت: ألا تلبسونني من حللكم هذه حلة؟ فقالوا لي: إنها ليست حُلل لباس، إنما هو رضوان الله يحل عليهم.

وعن الحسن قال: لقد صحبتُ أقوامًا يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سُجدًا وقيامًا؛ يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدودهم، فمرة رُكعًا ومرةً سُجدًا، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، لم يملوا كلال السهر لما قد خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين، فرحم الله امرءًا نافسهم في مثل هذه الأعمال ولم يرض من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره، واليسير من فعله؛ فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة. قال: ثم يبكي حتى تبتل لحيته بالدموع.

وقال الحسن: إن لله عبادًا هم والجنة كمن رآها فهم فيها متكئون، وهم والنار كمن رآها فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. أما الليل فصافي أقدامهم، مفترشي جباههم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم. وأما النهار فحكماء علماء أبرار أتقياء، قد براهم الخوف فهم أمثال القداح، فينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى! وما بهم من مرض، ويقول: قد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم.

وفي لفظ قال: كان والله من أدركت من صدر هذه الأمة، ما قالوا بألسنتهم فكذلك في قلوبهم، كانوا والله موافقين لكتاب ربهم ولسنة نبيهم، فإذا جنهم الليل فقيامٌ على أطرافهم يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يرغبون إلى ربهم في فكاك رقابهم، إذا أشرف لهم من الدنيا شيء أخذوا منه قوتهم، ووضعوا الفضل في معادهم، وأدوا إلى الله فيه الشكر، وإن زوي عنهم استبشروا، وقالوا: هذا من الله واختبار منه لنا، إن عملوا بالحسنى سرتهم، ودعوا الله أن يتقبلها منهم، وإن عملوا بالسيئة ساءتهم، واستغفروا الله منها.

وقال يحيى بن أبي كثير: والله ما رجل تخلى بأهله عروسًا أقر ما كانت نفسه وأسرَّ ما كان، بأشد سرورًا منهم بمناجاة الله إذا خلوا به.

ووالله إن المعتكف لأشد الناس سرورًا بربه إذا خلا به لمن رزقه الله الصدق والإخلاص.

وعن الأصمعي قال: حدثنا الدمشقي قال: ربما كان المطر وقراء القرآن من الليل يقرءون، فلا ندري أي الصوتين أرفع؟ المطر أم قراءة القرآن.

وعن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: كنا ونحن فتيان نريد أن نخرج لحاجة، فنقول: موعدكم قيام القراء.

فلا شيء يقدم على العبادة، لها يقومون وبها يتواعدون.

وعن إبراهيم بن عقبة قال: سمعت أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص تقول لنسائها في الليل: احللن عقد الشيطان، ليس هذا ساعة نوم.

وعن المغيرة بن حكيم الصنعاني كان إذا أراد أن يقوم للتهجد لبس من أحسن ثيابه، وتناول من طيب أهله، وكان من المتهجدين.

وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: كان تميم الداري رضي الله عنه إذا قام من الليل دعا بسواكه ودعا بطيب ولبس حُلَّةً كان لا يلبسها إلا إذا قام من الليل يتهجد.

وروى ابن سعد في الطبقات عن ثابت: أن تميماً الداري رضي الله عنه كانت له حُلَّة قد ابتاعها بألف درهم، كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.

وعن حماد بن سلمة قال: كان ثابت وحميد يغتسلان تلك الليلة ويتطيبان، ويحبان أن يطيبا المسجد بالنضوح [والدخنة] الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.

وروى ابن أبي شيبة عن عبدالله بن شريك العامري، قال: سمعت زر بن حبيش يقول: إذا كانت ليلة سبع وعشرين فاغتسلوا، ومن استطاع منكم أن يؤخر فطره إلى السحر فليفعل، وليفطر على ضياح لبن.

والضِّياح: اللَّبن الممزوج بالماء.

وروى عبدالرزاق عن إبراهيم النخعي، أنه كان يختم القرآن في شهر رمضان في كل ثلاث، فإذا دخلت العشر ختم في ليلتين، واغتسل كل ليلة.

فكانوا يتجملون لقيام الليل ويلبسون أحسن ثيابهم، معتكفين وغير معتكفين.


ثانيا: من آداب الاعتكاف

الأول: خفض الصوت، وألا يجهر بعضهم على بعض بالقرآن، فعن أبي سعيد قال: اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون في القراءة وهو في قبة له فكشف الستر ثم قال: ألا إن كلكم مناج ربه عز وجل فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفعن بعضكم على بعض في القرآن- أو قال: في الصلاة.

الثاني: كثرة ذكر الله تعالى، فمن لم يذكر الله وهو عاكف في مسجده مُفرَّغًا من الشواغل والصوارف والقواطع فمتى يذكره؟!

وروى ابن جرير في تفسيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده.

الثالث: الإكثار من قول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.

روى الترمذي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن علمتُ أيُّ ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفوَ فاعف عني).

ورُؤي أبو عثمان سعيد بن إسماعيل في المنام فقيل له: بماذا انتفعت من عملك؟ فقال: بقولي عفوَك عفوَك.

الرابع: ألا ينشغل إلا بخدمة خالقه ومولاه، فلا يكثر من خُلطة الناس، بل ولا يكثر من الطعام والشراب والكلام والنوم والمزاح، بل يجعل وقته كله لله إلا ما أعان عليه مما لابد منه.

روى ابن أبي الدنيا عن عون قال: كان لبني إسرائيل قيم يقوم عليهم، يقول: لا تأكلوا كثيرًا، فإنكم إن أكلتم كثيرًا نمتم كثيرًا، وإن نمتم كثيرًا صليتم قليلًا.

وروى عبدالرزاق عن علي رضي الله عنه قال: من اعتكف فلا يرفث في الحديث ولا يساب ويشهد الجمعة والجنازة وليوص أهله إذا كانت له حاجة، وهو قائم ولا يجلس عندهم.

وعن عروة وعمرة أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا اعتكفت في المسجد تعتكف العشر الأواخر من رمضان، ولا تدخل بيتها إلا لحاجة الإنسان التي لابد منها، وكانت تمرّ بالمريض من أهلها فتسأل عنه وهي تمشي لا تقف.

يا سبحان الله! تمرّ بالمريض من أهلها فتسأل عنه وهي تمشي لا تقف! فكيف بمن اعتكف وأخذ معه الجوالات والنَّقالات والحاسبات، فكيف بمن تابع الأسهم والتجارات. فكيف بمن باع واشترى وهو في المسجد، وهم مع ذلك يزعمون أنهم معتكفون! فأين الانقطاع لله. وأين الانقطاع عن الناس والشهوات والمباحات.

قال أبو طالب: سألت أحمد عن المعتكف، يعمل عمله من الخياطة وغيره؟ قال: ما يعجبني. قلت: إن كان يحتاج؟ قال: إن كان يحتاج؛ فلا يعتكف.

ومما يلاحظ على بعض المعتكفين: كثرةُ النوم، فينام أحدهم ثم يستيقظ لصلاة أو لحاجة ثم ينام مرة أخرى، فمن فعل ذلك من غير عذر فلا أرقد الله عينه.

روى ابن أبي الدنيا عن مسلم بن يسار قال: إذا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائمًا؛ فلا أرقد الله عينك.

وعن ثابت قال: كان رجل من العُبَّاد يقول: إذا أنا نمت ثم استيقظت ثم أردت أن أعود إلى النوم، فلا أنام الله عيني إذًا. قال: كنا نراه يعني نفسه.

وعن سفيان قال أبو إسحاق: أما أنا فإذا استيقظت لم أقلها. أي: لم أنم ثانية.

وقال أبو خالد الأحمر: قال داود الطائي: ما حسدت أحدًا على شيء إلا أن يكون رجل يقوم من الليل، فإني أحب أن أرزق قيام الليل.

قال أبو خالد: وبلغني أنه كان لا ينام الليل، فإذا غلبته عيناه احتبى قاعدًا.

وعن معلي بن أسد قال: سمعت المعتمر بن منصور يقول: كان أبي يوقظ كل من في الدار إذا دخل شهر رمضان، ويقول: قوموا؛ فلعلكم لا تدركوه بعد عامكم هذه.

الخامس: المحافظة على نظافة المسجد وصيانته مما يشينه، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه إلى حجرة عائشة رضي الله عنها لكي ترجل له شعر رأسه، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغي إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد- أي: معتكف- فأرجله وأنا حائض. وفي رواية للبخاري ومسلم، قالت: فأغسله.

وخير نظافةٍ لها وصيانة؛ هي صيانته عن ذكر الدنيا وما فيها.

روى أبو نعيم في حلية الأولياء عن الأوزاعي قال: كان عبدة إذا كان في المسجد: لم يذكر شيئاً من أمر الدنيا.

وعن أبي ادريس الخولاني قال: المساجد: مجالس الكرام.

وكان خليد بن عبد الله العصري يقول: لكل بيت زينة، وزينة المساجد: رجال يتعاونون على ذكر الله.

وعن عبدالله بن محيريز، قال: كل كلام في المسجد لغو، إلا كلام ثلاثة: مصل، أو ذاكر، أو سائل حق أو معطيه.

وعن حسان بن عطية قال: كانوا يمسكون عن ذكر النساء وعن الخنا: في المساجد.

عن يونس بن أبي إسحاق قال: كان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد: ذكر الله عز وجل.

السادس: الخروج من المعتكف إلى العيد؛ روى أبو مصعب الزهري عن مالك بن أنس رحمه الله: إنه رأى أهل الفضل إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعوا إلى أهاليهم حتى يشهدوا العيد مع الناس.

قال مالك: وبلغني ذلك عن أهل الفضل الذين مضوا, وذلك أحسن ما سمعت.

وفي تاريخ ابن عساكر عن أيوب قال: كان أبو قلابة يعتكف في مسجد قومه، وكان لا يُلقى له فيه حصير ولا شيء، وكان يجلس ناحية، وكان يبيت ليلة الفطر حتى يغدو إلى مصلاه من موضع اعتكافه.

وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم، قال: كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في مسجده، حتى يكون غدوه منه.

وفي هذا دليل على قوة الإرادة وعظيم الانقطاع لله تبارك وتعالى.


وللنساء نصيب

روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء.

روى ابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل عن الهيثم بن جماز قال: كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعستُ ترش عليَّ الماء في أثقل ما أكون من النوم وتنبهني برجلها وتقول: ما تستحي من الله كم هذا الغطيط، فوالله إن كنت لأستحي مما تصنع.

وقالت امرأة حبيب أبي محمد: انتبهت ليلة وهو نائم فأنبهته في السحر، وقالت له: قم يا رجل سوء! فقد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد ساروا قدامنا، ونحن قد بقينا.

وعن أبي يوسف البزاز قال: تزوج رياح القيسي امرأة فبنى بها، فلما أصبح قامت إلى عجينها، فقال: لو نظرتِ امرأةً تكفيك هذا- أي: تخدمك في صنع العجين- قالت: إنما تزوجتُ رياحًا القيسي، لم أرني أني تزوجت جبارًا عنيدًا، فلما كان الليل نام ليختبرها، فقامت ربع الليل ثم نادته: قم يا رياح! فقال: أقوم- يعني: إن شاء الله- فقامت الربع الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح! فقال: أقوم، ولم يقم، فقامت الربع الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح! فقال: أقوم، فقالت له: مضى الليل وعسكر المحسنون وفاز المحسنون وأنت نائم! ليت شعري من غرني بك يا رياح؟! قال: وقامت الربع الباقي. أي: الليل كله.

ورياح القيسي، هو: أبو المهاصر، كان مضرب المثل في الزهد والعبادة، قيل عنه: متأله كبير القدر.

انتهى

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
author-img

أبو رزان محمد بن عبدالحليم

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة