قبل عدة أسابيع سُئلت عن مقطع بعنوان: (قبول الضعف)، لعبدالرحمن بن ذاكر الهاشمي- وهو لمن لا يعرفه- طبيب عراقي استشاري في علم النفس التربوي، من أهل تحليلات الشخصية، والآراء النفسية، فمثل هذا- ابتداءً- لا يؤخذ منه شرع أو دين أو فتوى، أو حتى تحليل لأحداث السيرة.
فهو لا يرضى لأحد أن يتكلم في الطب إلا
بدليل أو برهان، فكيف يستحل لنفسه وهو الأعجمي الفهم أن يتكلم عن أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم بهذا الأسلوب القبيح. كما أنه تكلم عن المشايخ بسوء أدب وخشونة
لسان!
فذكر قصة رد النبي صلى الله عليه وسلم
عين قتادة، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم له أن يصبر وله الجنة، أو يردها عليه،
فاختار قتادة أن يردها عليه، وأن يدعو الله له الجنة. وسبب ذلك أن قتادة رضي الله
عنه قال: يا رسول الله إني امرؤ مبتلى بحب النساء، وإن لأكره أن يرينني أعور العين
على الحال الذي ترى!
وذكر أن المشايخ- إلا من رحم الله- لو
سمعوا كلام قتادة وطلبه رد عينه، لقالوا له: (اسفخص عليك)، وهي كلمة عامية معناها:
اتفو عليك- اسفخص معناها يبصق- للتو تقي رسول الله بسهم في عينك، ثم تأتي وتقول:
إني أحب النساء! هكذا يقول!
وحاشا المشايخ وأهل العلم أن يقولوا هذا
الكلام عن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه.
ثم ذكر حديثًا آخر لقتادة رضي الله عنه،
وعزاه للصحيح، وليس في الصحيح البتة. وفيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالخوف من
ظل قتادة في البرق!
ونص الحديث: هو ما رواه أحمد والطبراني
عن قتادة بن النعمان، قال: خرجت ليلة من الليالي مظلمة، فقلت: لو أتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه الصلاة وآنسته بنفسي، ففعلت، فلما دخلت المسجد برقت
السماء فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا قتادة ما هاج عليك؟»، فقلت:
أردت، بأبي وأمي أنت، أن أونسك).
فأين وصف النبي صلى الله عليه وسلم
بالخوف من ظل قتادة في البرق- والعياذ بالله.
وأما بخصوص رد عين قتادة بن النعمان رضي
الله عنه، فالقصة رواها ابن سعد في الطبقات، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن إسحاق
في السيرة، والحاكم في المستدرك، والطبراني، وأبو يعلى، والبغوي، والدارقطني، وابن
شاهين، والبيهقي في الدلائل، كما ذكرها ابن حجر في الإصابة، وابن كثير في البداية
والنهاية.
وهي قصة ضعيفة الإسناد، مضطربة المتن،
ففي رواية ابن إسحاق: أن ذلك يوم بدر، وفي رواية البيهقي: أنها يوم أحد، قال ابن
عبدالبر: وقيل يوم الخندق.
وحتى لو قلنا بصحة هذه القصة لشهرتها،
فليس فيها ما ذكره هذا من تفاصيل!
قال ابن إسحاق: "حدثني عاصم بن عمر
بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها فأخذها
قتادة بن النعمان فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على
وجنته، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّها بيده؛
فكانت أحسن عينيه وأحدّهما". وإسناده مرسل ضعيف.
وأخرجه الحاكم من طريق الواقدي، وأخرجه
البيهقي في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن قتادة بن النعمان.
وفي إسناده يحي الحمّاني، قال عنه ابن حجر في التقريب: "حافظ، إلا أنهم
اتهموه بسرقة الحديث".
ولننظر في نص الرواية من كتب الحديث:
في مصنف ابن أبي شيبة (32364) عن قتادة
بن النعمان، قال: سقطت عينه على وجنتيه يوم أحد؛ فردها رسول الله، فكانت أحسن
عينيه وأحدهما.
وفي الطبقات الكبرى (3/452) عن عاصم بن
عمر بن قتادة أن حدقة قتادة بن النعمان سقطت أو عينه على وجنته يوم أحد؛ فردَّها
رسول الله بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وفي المعجم الكبير (19/8) عن قتادة بن
النعمان قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس فدفعها إلي يوم أحد،
فرميت بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اندقت عن سنتها، ولم أزل عن
مقامي نصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى السهام بوجهي، كلما مال سهم منها
إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلت رأسي؛ لأقي وجه رسول الله صلى الله
عليه وسلم بلا رمي أرميه، فكان آخرها سهمًا بدرت منه حدقتي على خدي، وتفرق الجمع،
فأخذت حدقتي بكفي فسعيت بها في كفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها
رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفي دمعت عيناه، فقال: اللهم إن قتادة قد أوجه
نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرًا؛ فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرًا.
وفي هذا الإسناد عبدالله بن الفضل بن
عاصم، وهو منكر الحديث.
ولم تذكر مسألة محبته للنسوان، وأن هذا
سبب طلبه لرد عينه، إلا في رواية واحدة ذكرها الواقدي في المغازي في غزوة أحد (1/
242) حيث قال: (وأصيبت عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنته، قال قتادة: فجئت
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: أي: رسول الله، إن تحتي امرأة شابة جميلة
أحبها، وتحبني، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني، فأخذها رسول الله صلى الله عليه
وسلّم فردها، فأبصرها وعادت كما كانت، فلم تضرب عليه ساعة من
ليل أو نهار، وكان يقول بعد أن أسن: هي
والله أقوى عيني، وكانت أحسنهما).
ومعلوم أن الواقدي كذاب متروك.
ثم إن القصة ليس فيها كلام عن الأجنبيات
ومحبة النسوان كما زعم هذا المحلل النفسي، وإنما الصحابي قتادة رضي الله عنه يتكلم
عن زوجته، لا عن سائر النساء.
وإنما ذكرت هذه التفاصيل في رواية
الهيثم بن عدي، ولم أجدها مسندة في كتب الحديث، وهي رواية شاذة مخالفة لما تكاثر
من كون قتادة رضي الله عنه يتحدث عن زوجته.
ويغني عن هذا الحديث الضعيف أحاديث أخرى
صحيحة في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم في شفاء المرضى بإذن الله، منها:
ما رواه البخاري من مَسحه صلى الله عليه
وسلم على رِجْل عبدالله بن عتيك رضي الله عنه لمّا انكسرت ساقه في قصة قتل ابن أبي
الحقيق اليهودي، وفيه، فقال لي: (ابسط رجلك. فبسطت رجلي فمسحها، فكأنها لم اشتكها
قط).
ومنها ما رواه البخاري، ومسلم مما جرى
لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر، وكان يشتكي عينيه (فجئ به إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما سأل عنه فبصق في عينيه ودعا له؛ فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع).
ومنها ما جرى لسلمة بن الأكوع رضي الله
عنه حين أُصيبت ركبته يوم خيبر، قال: (فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه
(أي في موضع الإصابة) ثلاث نفثات، فما اشتكيت حتى الساعة). رواه البخاري.
فالخلاصة: أن هذا الرجل لا يؤخذ منه علم
أو فتوى أو دين، بل ينتبه لتحليلاته وكلامه.
قصة قتادة رضي الله عنه ضعيفة.
ولو صحت فليس فيها ما قاله عن قتادة من
محبته للنساء أو محبة النساء له!
والكلام- على ضعف شديد في الرواية- عن
زوجته وحليلته التي تحبه ويحبها، وفي سياق مؤدب محترم، لا كما صوره هذا الفيلسوف.
كل هذا ليقنع الجمهور بما سماه قبول
الضعف، ولو أراد نصوصًا صحيحة عن قبول الضعف لوجد.
ولو أحسنا الظن بالرجل وأن ما قاله سبق
لسان، فكثرة الزلل ينبئ عن جهل وغرور.
فالرجل لا يعرف إلا السيرة الضعيفة، ثم
هو في الأخير يحث على أخذ السيرة من منبعها الصحيح!
ويحلل السيرة بفهمه وتحليلاته، وفي ذات
الوقت ينهى عن قراءة السيرة بأفهام وتحليلات المتأخرين والمعاصرين!